الرحلة من دمشق إلى مدينة درعا، في الجنوب السوري، محفوفة بالموت. أكثر من ساعة ونصف ساعة تخترق فيها السيارة المسرعة سهل حوران، وعين السائق على جانبي الطريق ووسطها، بحذرٍ شديد. الموت هنا «مبدع»: قد يأتيك على هيئة عبوة ناسفة، رصاصة قنص، قذيفة هاون، أو سكين يحزّ رقبتك بعد الأسر بكمين.الخروج من دمشق مع ساعات الشمس الأولى خيارٌ صائب قبل أن تلتهم زحمة السير المدينة، وحتى تتمكن من العودة في ساعات بعد الظهر. فالليل على هذا الطريق ممنوع.

حاجز الجيش السوري على أطراف نهر عيشة هو إشارة بدء الرحلة رسمياً فوق أوتوستراد دمشق ـــ درعا الدولي. من الآن فصاعداً ستشعل الكثير من السجائر، وستبدو سيارتك وحيدة، لدقائق طويلة، على المسلك الغربي من الطريق الموحش.
بعد مدينة الكسوة، آخر مناطق ريف دمشق، يحملك الطريق في سهل حوران الساحر. بقعٌ خضراء بشتول البقول والقمح القصير، وأخرى بنية متناثرة في منبسطٍ لامتناه، وطيور الحمام البرّي التي لا توفّر معلماً على الطريق إلّا تترنح فوقه. وحدها منشأة محطة كهرباء دير علي العملاقة، على يسار الأوتوستراد، تسلب الربيع الأصلي ألقه.
الأوتوستراد الدولي حدّ فاصل بالنسبة إلى الميدان في درعا. فالطريق الرئيسي في قبضة الجيش السوري، ولا تفصل بين الحاجز والحاجز سوى كيلومترات قليلة، بينما تتوزّع السيطرة بين الجيش وفصائل المعارضة المسلحة على جانبي الطريق.

المدينة المتشظّية

على الرغم من أن السواد الأعظم من محافظة درعا يقع تحت سيطرة فصائل المعارضة، يسيطر الجيش على ما نسبته 60% من المدينة، إذ يصل عدد قرى محافظة درعا وبلداتها ومدنها إلى 135، يسيطر الجيش على 30 منها تقريباً بوجود فعلي، وحوالى 10 بلدات بالسيطرة النارية، أي يمنع المسلحين من السيطرة عليها، ويخضع الباقي لسيطرة «جبهة النصرة» وفصائل تابعة لـ«الجبهة الإسلامية»، كـ«لواء اليرموك» و«لواء الأنصار» و«لواء الإسلام» و«لواء درع السنّة» ولواء «أسود السنّة»، وما تبقى من فصائل لـ«الجيش الحر»، وتنظيم جديد اسمه «جيش محمد» بدأ ينتشر في الريف الغربي للمحافظة والريف الشرقي لمحافظة القنيطرة المحاذية. وتقول المصادر الأمنية هنا إن أكثر من ثلثي المسلحين من الإسلاميين المتشددين، بينهم نسبة لا بأس بها من غير السوريين (80% من الأجانب أردنيّون وفلسطينيّون، والباقون من جنسيات عربية سعودية وإماراتية وكويتية). الثلث الأخير من المسلحين يتألف من غير المتشددين، وأكثرهم من أبناء القرى والمدن الدرعاوية.
مدينة درعا في الأصل كتلتان: درعا المحطة، وسميت كذلك نسبة إلى محطة قطار الحجاز التي بنيت فيها عام 1904، ودرعا البلد (البلدة القديمة ومحيطها)، ويفصل بينهما مجرى نهر اليرموك. عملياً، يسيطر الجيش على منطقة درعا المحطة، وجزء من درعا البلد، وهي منطقة «المنشية». بينما تخضع درعا البلد أو منطقة السد ومخيم اللاجئين الفلسطينيين الملاصق لها في جنوب شرق المدينة لسيطرة المسلحين.

المعركة الحيّة

يركض جنديان من دون سلاح على الطريق الترابية التي يظللها ساتر منخفض، وفي يد أحدهما «غالون» مياه فارغ. من مكان قريب من «حاجز البرينس» ومنشأة الحديد (جنوب شرق مدينة درعا)، يمكن سماع رصاصات القنص التي تستهدف الجنديين من بنادق المسلحين المنتشرين في الحقول المحيطة بصوامع القمح، وخلفها سجن غرز المركزي. وقد تشعر بارتطام الرصاص على مقربة منك، إلّا أن مسير الجنديين بطمأنينة بالغة يذكّرك بأن الشابين قد حفظا الطريق عن ظهر قلب، ورصاصات القناصة أيضاً.
يبدو سجن غرز، من بعيد، كقلعة حصينة وسط السهل، على الأطراف الشرقية الجنوبية للمدينة. هو الآن تحت سيطرة مسلحي «جبهة النصرة»، بعد أن انسحبت منه كتيبة الحماية التابعة لقوات حفظ النظام قبل 10 أيام نتيجة الحصار المفروض عليه منذ أربعة أشهر. قبله بـ800 متر تقريباً، تبدو أعمدة منشأة الصوامع، التي يتعدى ارتفاعها ستين متراً. وهي، بالمناسبة، أحدث صوامع قمح، ليس في سوريا وحدها، بل في الشرق الأوسط.
لا شيء بعيد عبر المنظار العسكري. بوضوحٍ تظهر عربة الـ«بي. أم. بي.» المحترقة، فقد دمّرها صاروخ «كونكرس» أطلقه المسلحون من وسط عبّارة المياه الفاصلة بين صوامع القمح ومبنى المطاحن، قبل سقوط السجن بقليل، أثناء نقلها للإمدادات.
يسيطر الجيش على درعا المحطة والمنشية والمعارضة على درعا البلد والمخيم


30 قرية ومدينة في قبضة الجيش من أصل 135 في المحافظة
حاول الجيش إيصال الإمداد أيضاً، وصد الهجمات التي تتعرّض لها الصوامع، مع صعوبة ذلك. حاول الجيش صد الهجوم باستخدام قوّة نارية كثيفة من مختلف صنوف الأسلحة. ومن مكانك أيضاً، تشعر باهتزاز الأرض تحتك من كثافة نيران راجمات الصواريخ وقذائف الدبابات التي تتساقط أمامك، على مساحة كبيرة من الأرض التي تتحرك فيها قوات المعارضة المسلحة، التي تحاول التقدم في اتجاه الصوامع (بعد يومين، تمكنت المعارضة من السيطرة على الصوامع، وأعدمت سبعة عسكريين وأخذت عدداً من الأسرى، وقطعت رأس أحد العسكريين وعلّقته، ونشرت الفيديو على موقع يوتيوب). البقاء في المكان نفسه لوقت طويل قد يجعلك ومرافقيك عرضة للخطر. ما إن يقول أحدهم هذه الفكرة، حتى تقع قذيفة هاون على مقربة باستهداف مباشر. لست وحدك من يستخدم المنظار!

نموذج هجوم العتيبة

يقول أحد المعنيين، هنا، إن ما حدث في السجن والصوامع مشابه إلى حدّ بعيد للهجوم الذي شنته قوات المعارضة على جبهة العتيبة في الغوطة الشرقية، وحققت فيه اختراقاً مهماً لجبهة الجيش، لتعود بعدها الأمور وتنقلب رأساً على عقب، ويكون الاختراق سبباً لضربة قاسية لقوات المعارضة في منطقة الغوطة. يشرح المصدر توزيع القوات السورية قبل الحرب من الفرق الثالثة والخامسة والتاسعة، وكيفية انتشارها في مجموعات صغيرة مدرعة ومضادة للدروع، ومنصات للدفاع الجوي، في محاكاة لعدوان إسرائيلي ومواجهة جيش نظامي، الأمر الذي سمح للمسلحين بالسيطرة سريعاً على عدد غير قليل من مراكز الجيش، بحسب المصدر. إلّا أن الجيش عمد في الفترة الماضية إلى إنشاء ثكنات كبيرة، والتخلي عن المراكز الصغيرة.
ويتابع المصدر شرح المرحلة الأولى من المعارك: «عمد المسلّحون إلى تخريب غالبية منشآت الدفاع الجوي، من دون الاستفادة من الصواريخ الموجودة بداخلها، بدليل قرار الدول الداعمة لهم بتخريب المنشآت بغاية شلّها، وعدم السماح لهم باستعمالها ضد الطائرات السورية، ما يسهل قيام إسرائيل أو دول الناتو بشن عدوان جوي انطلاقاً من الأردن».
وبالحديث عن الجبهة الجنوبية ونية تسخينها، يؤكد أكثر من مصدر عسكري وأمني معني بملفّ الجنوب السوري، أنه ليس باستطاعة المعارضة، بعد الآن، أن تحقق قلباً للموازين انطلاقاً من ميدان درعا.
تقول المصادر: «هناك حِراك خجول في الجبهة الجنوبية، والدليل عليه الهجوم على السجن، لكن الباقي تهويل إعلامي». بالنسبة إلى الجيش، الخطوة التالية بعد القلمون هي المحافظة الجنوبية، وبحسب المصادر، فإن القوات السورية تستفيد من عدة عوامل. أولاً، يستثمر الجيش الدروس التي كسبها في معارك القصير وحمص والقلمون وريف دمشق، والأساليب الجديدة التي تماهي بين أسلوب حرب العصابات، والقوة النارية للحرب الكلاسيكية، وتنسيق القوات البرية مع المقاتلات الحربية، إضافة إلى طائرات الاستطلاع. ثانياً، انقلاب مزاج جزء (بغض النظر عن حجمه) من الحاضنة الشعبية للمسلحين، وتعاون فاعل للسكان المحليين مع الجيش، ومدّه بالمعلومات عن تحركات المسلحين وأماكن وجودهم. وثالثاً، استغلال النزاعات بين فصائل المعارضة المسلحة على مساحة أرض المحافظة. وعلى ما يؤكّد المصدر العسكري، فإن الأسابيع القليلة المقبلة ستشهد بدء الجيش بخطة لإعادة بسط السيطرة على المناطق، وتشديد الحصار على المسلحين، وعزل تجمعاتهم بعضها عن بعض.
في طريق العودة إلى دمشق، ستسابق الضوء، وتتمنى لو أنك زرت حوران قبل الحرب!


يمكنكم متابعة فراس الشوفي عبر تويتر | @firasshoufi




غرفة العمليات الأردنيّة

لا تبعد درعا عن مدينة الرمثا الأردنية أكثر من 10 كيلومترات، وعن مدينة المفرق حوالى خمسين. تقول مصادر أمنية في سوريا إن غرفة عمليات المنطقة الجنوبية مقرها مدينة المفرق، في نقطة استراحة الرشيد. وتشير المصادر إلى أن هذه الغرفة هي في الأصل غرفة إسرائيلية ــ أردنية قديمة، أنشئت بموجب اتفاقية وادي عربة، ضمن الجزء الأمني غير المعلن من الاتفاقية. وفي عام 1998، كانت الغرفة صغيرة وهدفها تبادل المعلومات فقط. أما اليوم، فهي بحسب المصدر غرفة عمليات مشتركة بين ضباط أميركيين وضباط من دول غربية والإمارات وإسرائيل والأردن وتركيا، وعدد من الضباط السعوديين، بينهم العميد أحمد الدوسري، ويرأس الغرفة الأمير سلمان بن سلطان، الأخ غير الشقيق لبندر بن سلطان، ونائب وزير الدفاع السعودي. وتؤكّد المصار المطلعة أن هناك انقساماً داخل الإدارة العسكرية والأمنية الأردنية حول السير في الاندفاعة السعودية لدعم المجموعات المسلحة على الأراضي السورية وتدريبها انطلاقاً من الأردن، وما يسبّبه الأمر من خطرٍ على الوضع الأردني الداخلي الآن وفي المستقبل. وتشير المصادر إلى اجتماع جرى العام الماضي لرؤساء أركان جيوش غربية وآخرين خليجيين، شارك فيه رئيس هيئة الأركان الأردنية الفريق أول الركن مشعل محمد الزبن الذي لم يبد حماسة للخطة السعودية.




«أهلاً وسهلاً بزوار حوران»

بعد حاجز «منكت الحطب» الفاصل بين محافظتي درعا وريف دمشق، ترى مفرق بلدة المسمية على اليسار، ويمكن الطريق منها أن تصل إلى أوتوستراد السويداء ـــ دمشق، وهي طريق آمنة نسبياً، بسبب مواقع الجيش القريبة منها. كيلومترات قليلة وتقع مدينة الصنمين على يسارك. المدينة منقسمة إلى جزءين: الجزء الشرقي بيد الجيش، فيما الغربي خاضع لسيطرة أكثر من عشرين تنظيماً مسلّحاً، بينها «جبهة النصرة». على حاجز بلدة تبنة، الطريق على اليسار، يأخذك إلى بلدة المحجّة، ومنها إلى مدينتي إنخل وجاسم الخاضعتين أيضاً لسيطرة المعارضة المسلحة. لكنك تتابع السير جنوباً، لتفاجأ بجنود من الجيش اتخذوا مواقع قتالية خلف الساتر الاسمنتي الذي يتوسط الطريق، ووجهوا بنادقهم يساراً، حيث تتحرّك مجموعة من المسلحين قرب الأوتوستراد، وكأن معركة هنا ستبدأ بين لحظة وأخرى. وأمامك الآن، على ذمّة لافتة زرقاء في الطريق، 40 كيلومتراً نحو الحدود الأردنية، 34 كلم إلى مدينة درعا، و24 إلى بلدة المزيريب، حيث ينبع نهر اليرموك. قبل مدينة إبطع بـ4 كيلومترات، أي بعد الجسر والحاجز، يزداد السهل جمالاً، لكنك لن ترى بيتاً لم تسوّه المعارك بالأرض بعد الآن. هنا، على حاجز خربة غزالة، على اليمين إلى مدينة الحراك، وعلى اليسار إلى طفس وداعل. المدن الثلاث أيضاً تحت سيطرة المعارضة المسلحة. قبل عامٍ تقريباً، تمكن المسلحون من السيطرة على الطريق في خربة غزالة، بلدة اللواء رستم غزالة رئيس فرع الأمن السياسي السوري. بعد مدة قصيرة، طردت قوة من الحرس الجمهوري المسلحين، وأعادت تحرير البلدة وتأمين الطريق نحو مدينة درعا، عملاً بالاستراتيجية التي ينتهجها الجيش في كلّ المحافظات السورية، وهي السيطرة على الطرقات الدولية.
الوصول إلى قلب المدينة يتطلّب المرور على اليمين عبر طريق بلدتي النعيمة وعتمان اللتين يسيطر عليهما المسلحون، وهو طريق دمشق ــ درعا القديم، بينما يطوّق الجيش الطريق ويعزلها بالسواتر الترابية. بعد الأوتوستراد بـ500 متر تقريباً، علّق اتحاد فلّاحي درعا لوحة كُتب عليها «أهلاً وسهلاً بزوّار حوران».