قبل حوالى ثلاث سنوات، قدّرت دراسة اقتصادية محلية خسائر الاقتصاد السوري الناتجة عن ظاهرة التهريب بأكثر من ستة مليارات دولار. لكن يبدو أن هذا الرقم بات اليوم مرشّحاً للزيادة أكثر مع انتشار جغرافي أوسع للظاهرة، وتعمّق تأثيراتها في ظل تشديد الغرب لعقوباته، ومحاولة بعض الدول إغراق السوق السورية بسلع وموادّ ترهق سوق القطع الأجنبي.يتذكّر أبناء القرى الحدودية مع لبنان، كيف استيقظوا فجر ذات يوم من عام 1993 على أصوات مكبرات صوت المساجد، وهي تعلن فرض حظر كامل للتجوال. هذا في وقت كان فيه العناصر الأمنيون يملؤون الشوارع ومداخل القرى استعداداً للقيام بحملة تفتيش واسعة للمنازل والمحالّ التجارية، وحتى البساتين، بحثاً عن السلع المهرّبة والمهرّبين. آنذاك، لم يُقض على الظاهرة نهائياً، رغم تكرر الحملات الأمنية، لكن لم تعد كالسابق بأسواقها الشهيرة وسلعها وأعداد العاملين فيها.
اليوم، يتكرر المشهد ذاته مع تباين في الظروف. فالبلاد التي لا تزال تعاني من خسائر الحرب والعقوبات، تجد نفسها بمواجهة عملية استنزاف لما تبقّى من مواردها. عملية زادت حدّتها، على خلاف المتوقّع، مع عودة مناطق واسعة لسيطرة الحكومة، ما دفع بالسوريين إلى اعتبار أن المعركة مع «دواعش الداخل» باتت أولوية لتتمكّن البلاد من تجاوز الأزمة واستعادة ثقة المواطن.
يأتي التهريب ثالثاً بين الظواهر الاجتماعية السلبية الأكثر انتشاراً خلال سنوات الحرب بمعدل انتشار حوالى 2 وفق سلم القياس المحدد من صفر حتى 10، بحسب نتائج مسح السكان لعام 2014، وذلك خلف ظاهرتَي الاحتكار والسرقة. تشير البيانات إلى أن ظاهرة التهريب تكاد تكون حاضرة مع جميع الدول المجاورة، وإن بنسب مختلفة. وتكشف البيانات أن محافظة الحسكة تتصدّر القائمة ، حيث سجّلت معدّل انتشار قُدّر بحوالى 5، فمحافظة إدلب ثانياً بحوالى 3.6، ثم محافظتا دير الزور والرقة ثالثاً ولكل منهما 3.2، أمّا رابعاً فجاءت كلّ من حمص وحماة ولكل منهما 2.1، وحلّت خامساً حلب وريف دمشق بـ 1.8.

المخاطر الأكبر
ثلاثة أسباب تجعل من خطر التهريب اليوم أكبر من أي وقت مضى، فهو يكاد يضاهي بتأثيراته السلبية العقوبات والاحتلال الأميركي لحقول النفط.
أول تلك الأسباب، يتمثّل في البعد السياسي، مع محاولة إغراق السوق، وهي سياسة تعمل على تنفيذها تركيا منذ سقوط أوّل معبر حدودي (باب الهوى) بيد المجموعات المسلحة أواخر عام 2012. تسعى تركيا إلى إعادة إنعاش صادراتها التي تراجعت إلى مستوى متدنّ في عام 2012 (نصف مليار دولار)،من جهة، ومن جهة ثانية تحاول زيادة حدة المشاكل التي يواجهها الاقتصاد السوري، سواء بتعطيل استعادة إمكاناته الإنتاجية أو الضغط على ما يتوفر لديه من قطع أجنبي. وبحسب رئيس اتحاد غرف الصناعة السورية فارس الشهابي، فإن كل ما تصنّفه الحكومة التركية «صادرات» لها إلى سوريا ليس سوى مهربات تدخل إلى مناطق سيطرة المسلحين في الشمال، ومنها تتسلل عبر شبكات التهريب إلى المناطق الخاضعة لسيطرة الحكومة السورية. وهذا يُعد برأي الشهابي أكبر مشكلة تعترض المنتج المحلي وتستنزف موارد القطع الأجنبي بشكل دائم. ويمكن الاستدلال على حجم السلع التركية المهرّبة من خلال استعراض البيانات الإحصائية المتعلقة بما تعتبره أنقرة صادرات إلى سوريا، وهي تكشف أن قيمة الصادرات التركية إلى الشمال خلال العام الماضي وصلت إلى حوالى 1.7 مليار دولار، بزيادة قدرها 400 مليون دولار عن عام 2018، حين بلغت 1.3 مليار دولار. وهذه الأرقام تتقاطع مع البيانات الرسمية التركية، وتتساوى مع إجمالي الصادرات المعلنة رسمياً في عام 2010.
مثّل التهريب في مرحلة ما إحدى أدوات مواجهة الحصار


ثاني الأسباب، يتعلّق بتحوّل التهريب من كونه مهنة غير شرعية تُمارس في الخفاء وضمن مناطق حدودية معينة (لم يتجاوز المعدل قبل الأزمة 0.5)، إلى عمل منظّم تقف خلفه شبكة واسعة من أمراء الحرب والسماسرة وبنية تحتية من الآليات والتجهيزات. وبحسب مدير «مركز دمشق للأبحاث والدراسات» هامس زريق، فإن التهريب في المناطق الحدودية مع لبنان تحوّل «من بنية فردية شبه منظمة إلى شبكة معقّدة من المصالح وبنية مافياوية تدخل فيها مصالح لجهات نافذة من البلدين وتفكيكها لن يكون بالأمر السهل، فلم يعد العمل فيها مقتصراً على قاطني المناطق الحدودية». ذلك مقارنة بحجم السلع والبضائع التي يجري تهريبها من وإلى البلاد، والتي تتباين التقديرات حول قيمتها، لكنها لا تقل عن 200 مليون دولار شهرياً بالنسبة إلى البضائع المهربة إلى سوريا، وهي تفوق بأضعاف احتياجات المناطق الخاضعة لسيطرة المسلحين الموالين لتركيا، ما يشير بوضوح إلى أن الهدف النهائي للسلع التركية المهربة هو أسواق العمق السوري. يشار إلى أن تقديرات غير رسمية حدّدت، قبل نحو ثلاث سنوات، حجم المهربات الشهرية التي تدخل السوق السورية بنحو 250 مليون دولار، بينما تؤكد مديرية الجمارك العامّة أنها وضعت يدها على أكثر من 22.7 ألف قضية تهريب خلال السنوات الثلاث الأخيرة، ترتب عليها غرامات بحوالى 194 مليار ليرة.

تدفّق في الاتجاهين
أمّا السبب الثالث، الذي يجعل من التهريب أكثر خطراً اليوم، فيكمن في طبيعة السلع المهرّبة، والتي كانت سابقاً تقتصر على بعض السلع المدعومة كالمشتقات النفطية والطحين، أو تلك التي كان يمنع استيرادها لأسباب اقتصادية أو حتى الممنوعات. ما تعيشه الدول المجاورة حالياً من أوضاع اقتصادية سلبية وتنافسية بعض السلع السورية أسهما في حدوث تدفّق سلعي معاكس، يتمثّل في تهريب بعض القوى الفاعلة على الأرض كمّيات كبيرة من الثروات والمنتجات السورية، ولا سيما الزراعية والحيوانية منها، كالقمح والبندورة والثوم والبيض والأغنام والماعز ومحاصيل زراعية أخرى، إلى دول في المنطقة، ما تسبب بارتفاع أسعارها في السوق المحلية بصورة غير مألوفة، وتهديد لقمة عيش الأسر التي توجد في دائرة الفقر. هذا الأمر دفع الحكومة لتشديد قبضتها على المعابر الحدودية وإغلاقها لأخرى غير شرعية. يضاف إلى ذلك ما يجري إخراجه في المناطق الخاضعة لسيطرة المسلحين من منتجات باتجاه الأراضي التركية، والتي يفضّل رئيس غرفة تجارة وصناعة إدلب عمار شتات، في حديث إلى «الأخبار»، أن يتم «تشجيع أصحابها على تسويقها داخل المناطق الخاضعة لسيطرة الدولة، وذلك من خلال إعفائها من الرسوم المفروضة عليها، فهي في النهاية تنتج في منشآت مرخّصة تعود ملكيتها إلى مواطنين سوريين، إلا أن القدر حكم عليها أن تقع في مناطق تتمركز فيها مجموعات مسلحة».
مقابل الدعوات الشعبية والرسمية المتزايدة إلى ضرورة تفكيك شبكات التهريب، تعتقد شريحة من السوريين أن التهريب مثّل في مرحلة ما إحدى أدوات مواجهة الحصار الخارجي الذي فُرض على البلاد في ثمانينيات القرن الماضي، وهو اليوم يمكن أن يعيد ممارسة الدور عينه، إلا أن تورّط شبكات التهريب في إدخال منتجات غذائية غير صالحة للاستهلاك، وإغراق السوق بسلع كثيرة إمّا تضر بالمنتج الوطني وإمّا تدخل في خانة الكماليات، يجعل من الظاهرة في كل الأوقات عبئاً ثقيلاً على اقتصاد البلاد.