دمشق | «شركتنا شبه مغلقة منذ ثلاثة أسابيع. صحيح أن عملنا مستثنىً من إجراءات الحظر والإغلاق التي اتخذتها الحكومة لمنع انتشار فيروس كورونا، إلا أن 70% من الموظفين يقطنون في ريف العاصمة، وبالتالي فهم مضطرون مع توقف وسائل النقل العامة إلى التنقل بسيارات أجرة خاصة، وهذا أمر مكلف يومياً بالنسبة إليهم، لذلك نحاول تسيير الأمور بمن يحضر من الموظفين، خاصة وأن عمل الشركة تراجع بنسبة 40% على صعيد تجديد العقود السابقة، في حين لم يتم إبرام أيّ عقد جديد». بهذه الكلمات، يصف وائل سعداوي، وهو مدير شركة تأمين خاصة، حال العمل بعد نحو شهر تقريباً على الإجراءات الحكومية الوقائية، وهو يعتبر أن الخسائر المتحقّقة إلى الآن على خطورتها بالنسبة إلى شركته، إلا أنها تبقى محدودة إذا ما قورنت بخسائر منشآت صناعية أخرى اضطرت إما إلى تقليص حجم إنتاجها إلى حدود دنيا، أو إلى التوقف تماماً في ظل عدم وجود أسواق داخلية أو خارجية للتصريف. وتبدو الخسارة أثقل لدى أكثر من 83 ألف منشأة حرفية عادت إلى العمل خلال عام 2019، ولم تستردّ بعد ما أنفقته من مبالغ على عملية إعادة إصلاحها وتأهيلها للإنتاج، وسرعان ما دفعها الفيروس المستجد الى الإغلاق أو تخفيض الإنتاج إلى حدّ كبير.ولم يكد الاقتصاد السوري يستفيق من صدمة الانخفاض الحاد الذي طرأ على سعر الصرف مع نهاية العام الماضي، حتى جاءت أزمة فيروس كورونا لتصبّ مزيداً من الزيت على النار المشتعلة أساساً منذ تسع سنوات، وتسببت بخسائر لا تزال أرقامها في تصاعد مستمر مع كل يوم يمضي من عمر هذه الحرب، والتي بحسب الصناعي هيثم عرب الحلبي «أدّت إلى خسارة ما يقرب من 85% من فرص التصدير السابقة لمنتجات البلاد من الألبسة، وهو ما جعل جميع المصانع تركّز اهتمامها على السوق المحلية وتنتج فقط من أجلها». ويضيف الصناعي المتخصّص في إنتاج الألبسة في حديثه لــ«الأخبار» أن «ضعف دخل المستهلك واضطراره إلى توجيه جلّ إنفاقه لتأمين الطعام والدواء لأسرته أولاً، جعلا الإنفاق على شراء الألبسة يتراجع إلى ذيل اهتمامات المستهلك». وهذه مشكلة أخرى واجهت الصناعة المحلّية، وتعمّقت أكثر مع الإجراءات الحكومية الأخيرة لمواجهة فيروس كورونا.

خسائر شديدة التعقيد
لم تكن ثمة خيارات كثيرة أمام الحكومة للتعامل مع التهديد المتوقّع لفيروس كورونا. خياران أحلاهما مرّ، إما المحافظة على استمرار الحياة العامة ودوران عجلة الإنتاج بالتوازي مع إرشادات صحية، وتحمّل مخاطر عالية جراء صعوبة التحكم بانتشار الفيروس، أو الذهاب نحو إجراءات تشجّع على التباعد الاجتماعي، ومن ثم الحظر الجزئي أو الشامل حسب منحى الإصابات المسجّلة يومياً، وهذا ستكون له تكلفته الاقتصادية الكبيرة، إنما ذلك سيمنح المؤسسات الصحية فرصة كافية لتحضير نفسها لمجابهة الفيروس. وهذا ما فضّلته الحكومة السورية، كما هو حال حكومات كثير من الدول، خاصة مع تركة الحرب الثقيلة والعقوبات الخارجية المؤثرة على القطاع الصحي.
تبدو الآثار الاقتصادية للإجراءات المتخذة لمواجهة انتشار فيروس كورونا شديدة التعقيد، فهي لا تقف فقط عند الخسائر المترتّبة على توقف القطاعات والمهن المشمولة بالحظر، وإنما تمتدّ لتشمل أيضاً تلك التي تم استثناؤها من الحظر، وفي مقدّمتها المنشآت الإنتاجية. وبحسب الاستشاري الدكتور سعد بساطة فإن «الخسائر المباشرة المقدّرة بمليار دولار، تشمل فقط فترة توقف الأعمال والحظر خلال شهر، بمعنى أن الرقم سيتضاعف إذا ما ظل الأمر على ما هو عليه لشهر آخر». ويضيف لـ«الأخبار» أن «الحكومة الآن أمام معضلة حقيقية بين الإنفاق الضروري والمتزايد لكبح جماح انتشار المرض المستجدّ، وبين صرف رواتب ومستحقّات موظفي الدولة من جهة أخرى، ما يجعل الحكومة أمام سبيل وحيد، ألا وهو الاقتراض وتأخير مستحقات خارجية ومحلية لتيسير الأمور»، سيما وأن جميع التوقعات ترجح حدوث تراجع في إيرادات الخزينة العامة من الموارد المحلية والمقدّرة في موازنة العام الحالي بنحو 1500 مليار ليرة، في حين أن الخسارة الاقتصادية للبلاد ستكون أكبر مع حدوث تراجع كبير في الناتج المحلي الإجمالي، والمقدّر رسمياً في عام 2018 بنحو 9.220 آلاف مليار ليرة بالأسعار الجارية، أي ما متوسطه يومياً حوالى 25.6 مليار ليرة.
مصدر دخل أكثر من 1.8 مليون عامل سيكون مهدداً بنسب متفاوتة


فمثلاً في القطاع السياحي هناك ما يقرب من 700 منشأة وُضعت في الاستثمار خلال السنوات الثلاث الأخيرة اضطرت خلال الشهر الأول من إجراءات مواجهة الفيروس إلى التوقف عن العمل نهائياً، أو العمل بطاقة متدنية. كذلك الحال بالنسبة إلى السياحة الدينية إذ استقبل في العام الماضي حوالى 235 ألف سائح قضوا في زيارتهم للبلاد نحو 1.4 مليون ليلة سياحية. وعلى اعتبار أن تقديرات إنفاق السائح الديني لا تتجاوز 300-400 دولار، فهذا يعني أن سوريا يمكن أن تفقد شهرياً جرّاء توقف السياحة وسطياً ما بين 7 إلى 8 ملايين دولار. وهذا أيضاً بالنسبة إلى القادمين العرب والأجانب، والذين بلغ عددهم في العام الماضي نحو 2.36 مليون، قضى منهم حوالى 1.6 مليون ليلة سياحية في الفنادق السورية المختلفة.
تلك التأثيرات تتبدّى أكثر على حياة الأسر، التي اضطر أفرادها للتوقف عن العمل بفعل إغلاق الأسواق والمحالّ التجارية بمختلف أنواعها أو نتيجة تراجع الطلب على السلع والخدمات. وتبعاً لبيانات المكتب المركزي للإحصاء فإن عدد العاملين بأجر في القطاع الخاص مع نهاية عام 2018 بلغ حوالى 763 ألف شخص، وعدد من يعمل لحسابه 1.1 مليون شخص. وبهذا فإن مصدر دخل أكثر من 1.8 مليون عامل سيكون مهدداً بنسب متفاوتة تبعاً للقطاعات والمهن التي يعملون بها، وطوال فترة الإجراءات الحكومية، فمثلاً هناك أكثر من 231 ألفاً يعملون في القطاع الصناعي الخاص، و650 ألفاً في قطاع التجارة والمطاعم والفنادق، و290 ألفاً في قطاع البناء والتشييد. هذا من دون التطرّق إلى أوضاع العاملين الحكوميين البالغ عددهم 1.6 مليون شخص، والذين رغم استمرار الدولة في تسديد رواتبهم البالغة شهرياً نحو 97 مليار ليرة، إلا أنهم سيفقدون مصادر الدخل الأخرى التي كانت تسند رواتبهم الشهرية.

خسارة قاسية أخرى!
ومع ذلك فإن العين تبقى مفتوحة أكثر على القطاع الصناعي، الذي عانى الأمرّين بسبب الحرب والعقوبات، وتالياً فإن قدرته على تحمّل خسارة أخرى تبدو ضعيفة، رغم أن بعض منتجاته تجد اليوم طلباً متزايداً من قبل المستهلكين المحليّين كالسلع الغذائية والمنظّفات والمعقّمات وغيرها. لكن في المقابل هناك منشآت أخرى كثيرة اضطرت إلى التوقف عن العمل. وحتى المنشآت الصناعية الحكومية التي حرصت الدولة على استمرار عملها، فإن حصيلة مبيعاتها المتحقّقة في العام الماضي والبالغة حوالى 271 مليار ليرة (الدولار الواحد يعادل 1200 ليرة تقريباً)، فإنها قد لا تتكرّر هذا العام. وبحسب نائب رئيس جمعية العلوم الاقتصادية ومعاون وزير الصناعة السابق، الدكتور فؤاد اللحام، فإن «الصناعات النسيجية شهدت تراجعاً كبيراً في الطلب على منتجاتها، ما أدى إلى توقف الغالبية العظمى من هذه المنشآت عن العمل، وتحوّل القسم الضئيل الآخر إلى إنتاج الألبسة والكمّامات الطبية التي واجهت طلباً غير مسبوق، على الرغم من عدم تلبية قسم منها للمواصفات المطلوبة. أما الصناعات الهندسية فكانت من أكثر الأنشطة المتأثرة سلباً بسبب انخفاض الطلب على منتجاتها». ويشير لـ«الأخبار» إلى أن أعداداً كبيرة أخرى من «المنشآت الصناعية الصغيرة، سواء النظامية أو غير النظامية، توقفت عن الإنتاج أو تصريف ما هو موجود لديها، وأصبح أصحابها والعاملون فيها رهن البطالة».
تصبح الأمور أكثر سوءاً فيما لو اضطرّت الحكومة إلى تمديد العمل بالإجراءات المتخذة لمواجهة الفيروس لأسابيع أخرى، إذ ستصبح خيارات الصناعيين صعبة وفق ما يعتقد الصناعي هيثم عرب الحلبي، فهم «قادرون على الاستمرار لفترة بسيطة لجهة قدرتهم على تحمل رواتب العمال». وهذا ما ذهب إليه أيضاً الاستشاري بساطة بقوله: «لا يمكن توقف الأنشطة مرة واحدة، فتموت الحياة وتتوقف عـجلة الكون. ولا سيما أنّ ما يزيد عـن 80% من الأنشطة الاقتصادية ــــــــــ الصناعـية في بلدنا، هي من الحجم الصغـير والحِرفي، وتقوم بتوفير الدخل لعشرات الآلاف من الأسر المعـوزة... قد تكون دمشق مدينة تجارة وخدمات، ولكن حلب مدينة صناعـات وحرف».
كل ذلك يضغط على الحكومة لمقاربة إجراءات جديدة تكون موازية لما اتخذته سابقاً «لتأمين الخروج من آثار هذه الجائحة في أقرب وقت وأسلم طريقة». وهذه الإجراءات كما يقترح الدكتور اللحام يأتي «في مقدّمتها إعادة النظر في توزيع أبواب موازنة عام 2020 وفق متطلبات مواجهة الأزمة بما يؤمن تأمين احتياجات المواطنين الأساسية وتوفير الإمكانات اللازمة للمنشآت الإنتاجية الصناعية والزراعية كافة، بما في ذلك المنشآت الصغيرة ومنحها التسهيلات اللازمة لذلك. وتأجيل سداد الديون والرسوم والالتزامات الأخرى وتكثيف الجهود مع الأصدقاء للعمل على رفع العقوبات الاقتصادية عن سوريا، وتقديم المساعدات اللازمة».