بعدما خلّفت سنوات العقد الأول من القرن الحالي ارتياحاً لدى الباحثين المهتمّين بالشأن السكاني، جاءت سنوات الأزمة المتتالية منذ عام 2011 لتزيد من مخاوف الجميع حيال مصير الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية للسكان، والتي تؤكد مؤشراتها الإحصائية أنها الأكثر سوءاً منذ الاستقلال. إذ لم يسبق للبلاد أن شهدت معدّلات بطالة أو فقر أو وفيات أو غيرها، كتلك التي أنتجتها الأزمة. وهذا ما يجعل الخوف في هذا السياق مشروعاً... وربما مطلوباً أيضاً.قد لا يكون الخوف في سوريا، حيث تتزاحم المؤشّرات التنموية في زمن الحرب، فعلاً شعبياً تُعايشه مختلف الشرائح الاجتماعية، بالنظر إلى أن تلك المؤشرات تحاكي المتغيرات بعموميتها وليس بحالاتها الفردية المؤثرة. وعليه، فإن هذا النوع من الخوف لا يتلمّس خطورته سوى العاملين في الشأن البحثي السكاني والإحصائي. يستشعر الباحث في القضايا السكانية، الدكتور علي رستم، الخوف عند متابعته المؤشرات والبيانات الإحصائية، والتي تعكس جانباً مهماً من تأثيرات الحرب. ويؤكد، في حديثه إلى «الأخبار»، أن «هناك تدهوراً بنسب مخيفة في جميع المؤشرات، وربما يعيدنا هذا التدهور أكثر من ثلاثين أو أربعين عاماً إلى الخلف، وربما أكثر في بعض الأحيان». إذ وصل معدّل البطالة إلى مستويات قياسية لم تُسجَّل في تاريخ البلاد من قبل، سواء ذلك المعدل الذي تعتقد المؤسسات البحثية الرسمية بوجوده أم المقدّر من قِبَل منظمات وجهات دولية أممية أو مستقلة كمنظمة «الإسكوا»، والتي أشارت في تقريرها الأخير الصادر في العام الماضي، إلى أن معدّل البطالة وصل مع نهاية عام 2015 إلى نحو 55%. وخلال الفترة الممتدة بين عامي 2011 و2015، خسر الاقتصاد السوري ما يقرب من 2.1 مليون فرصة عمل، أو بالأحرى مصدر لقمة عيش أسر كثيرة.
يخاف السوريون من أن تسوء الأوضاع الاقتصادية أكثر، فيصبحون في عداد الفقراء أو يزدادون فقراً


وإذا كان الخوف ملازماً لحياة الفقراء منذ الأزل، فإنه في الحالة السورية بات ساكناً نفوس الشريحة الأوسع من السوريين، الذين يخافون من أن تسوء الأوضاع الاقتصادية أكثر، فيصبحون في عداد الفقراء أو يزدادون فقراً وحاجة عمّا هم عليه. ووفقاً للدكتور علي رستم، فإن «نسبة من هم تحت خط الفقر الغذائي كانت قبل الأزمة أقلّ من 1% من السكان، مقابل نسبة تتجاوز حالياً 50%. ونسب من هم تحت خط الفقر الأدنى لم تكن تتجاوز 12%، على رغم زيادة النسبة في النصف الثاني من العشرية الأولى من الألفية الثالثة، بعكس ما كانت تروج له الحكومة العطرية الدردرية آنذاك؛ أما الآن، فالنسبة تزيد عن 70%، وهي بيانات تؤكد أن الفقر عميق جداً، وتكلفته عالية حتى على الدول ذات الاقتصاديات القوية». وتحت هاجس الخوف على الحياة، نشأ خوف آخر سيطر على حياة نصف السوريين، الذين اضطروا إلى النزوح والهجرة من منازلهم ومناطقهم بفعل المعارك والرصاص. وتفيد البيانات الرسمية بأن الحكومة السورية وفّرت أعمال الإغاثة لنحو 4.5 ملايين إنسان نزحوا عن مناطقهم، مقابل تقديرات غير رسمية تشير إلى أن عدد النازحين داخلياً تجاوز 6.5 ملايين إنسان، فيما أكثر من 4 ملايين صُنِّفوا كلاجئين ومهاجرين في دول الجوار والعالم.
وحتى القطاعات التي كان لتدخّل الدولة فيها قبل الحرب أثر مبدِّد للخوف كالتعليم والصحة وغيرهما، فقد تحولت مع تعمّق الأزمة إلى أكثر القطاعات تصديراً للخوف، سواء على حياة السوريين وصحتهم ومستقبلهم أم على المستقبل العام للبلاد وقدرتها على مواجهة ما أنتجته الأحداث من سلوكيات ومعتقدات وأفكار تخالف البيئة السورية. ففي قطاع التعليم، غدا الخوف الأكبر يتأتّى من نسب التسرّب الكبيرة، وعدم التحاق شريحة واسعة من الطلاب بمدارسهم، وهي نسب لم تكن تتجاوز قبل الحرب، وفي أسوأ الحالات، 8% للتعليم الأساسي و3% للمرحلة الابتدائية. كذلك الحال بالنسبة إلى مؤشرات الصحة، التي حققت سوريا فيها نقلة نوعية خلال فترة ما قبل الأزمة، على رغم تباطؤ التقدم في الأعوام الأخيرة التي سبقتها؛ إذ أن معدلات وفيات الأطفال والرضع انخفضت إلى مستويات قياسية خلال الفترة الممتدة بين عامي 1980 و2001 من 34 بالألف إلى نحو 18 بالألف، وبقيت عند هذا المستوى حتى عام 2010. أما اليوم، فإن ذلك المعدّل هو عند مستوياته في بداية التسعينيات، أي نحو 25 بالألف بحسب التقديرات غير المباشرة، بفعل غياب إحصاءات حديثة في شأنه. والأمر نفسه ينسحب على وفيات الأمهات التي انخفضت إلى الثلث خلال الفترة نفسها، لتصل إلى 52 حالة وفاة لكل 100 ألف ولادة.