حمص | «واحة أمان»، هذا ما مثّله تجمّع قرى المركز الشرقي في ريف حمص، وسط جوار صحراوي مشتعل، خلال أيام الحرب القاسية التي شهدتها محافظة حمص. لم تمضِ تلك القرى في ركب الحراك منذ بداياته، على الرغم من محاولات استثارة «فزعتها الطائفية» للالتحاق بالتمرّد المسلّح ضد الدولة السورية. نقطة مسالمة مضيئة مثّلتها قرية سكّرة، الواقعة في مركز تجمع القرى الذي يتميز بتداخل طائفي متنوع. وهو مجتمع فلّاحي بسيط بذل وجهاؤه جهوداً خاصة لمنع غرق المنطقة في الدماء والخراب. وللتحرك نحو القرية التي تبعد عن مركز مدينة حمص مسافة 12 كلم فقط، لا بد من اجتياز أحياء وضواحٍ وقرى طحنتها رحى الحرب. إلا أن سكّرة، ومع وجود السبب «الطائفي» لاستثارة الناس نحو التمرد أسوةً بهذه المناطق، لم تفعل، ما يدفع الى التساؤل عمّا حيّد مجتمع سكّرة ومحيطها الاجتماعي البسيط عن مسار العنف؟ وما سرّ التآلف مع قرى الجوار المختلفة طائفياً، والتي لم تُسجَّل لأبنائها، بدورهم، محاولات استفزاز أو انتقامات زخرت أخبار الحرب بها في كل مكان؟ذات يوم من أيام «الحذر الأمني» الذي لف البلاد قبل أن تغرق في ظلام الحرب، اجتمع وجهاء قرى المركز الشرقي الذي يضمّ مناطق ذات تنوع طائفي، كالثابتية وزيدل وفيروزة، إضافة إلى ممثلي القرى السبع التي تشكل امتداداً طائفياً واحداً عادة ما يمثل إغراءً لمستثيري النعرات. وعلى رغم تأثر بعض أبناء سكّرة بحماسة التظاهرات المندلعة في أماكن متفرقة من البلاد، غير أن بدء تحركهم في البلدة من خلال حرق غرفتين من مدرستها استفزّ الأهالي ودفعهم إلى نبذ المخرّبين وتطويقهم. ومع انطلاق موجة التسلح في البلاد، خرج ما يقارب 10 عائلات برفقة أبنائها المسلحين باتجاه الريف الشمالي، فيما أصبحت المنطقة محجّ النازحين، إذ وصل عددهم إلى 14 ألفاً، بينهم 8 آلاف في سكّرة وحدها، على رغم تعداد البلدة السكاني المقدر بـ5 آلاف نسمة. ومع تحرير مناطق حمصية أخرى كبابا عمرو ودير بعلبة وعشيرة والخالدية والوعر، تقلّص عدد النازحين تدريجياً إلى النصف، علماً بأن الكتلة السكانية في المنطقة تُقدّر بما يفوق 25 ألف نسمة، منهم ما يقارب 100 شهيد.
لم يدخل الجيش إلى سكّرة أبداً، واقتصر الأمر على رعاية التنسيق بين أهالي القرى المتداخلة


مطلع تشرين الثاني من عام 2013، وقع تفجير قرية الثابتية المجاورة لسكّرة. شاحنة مفخخة عبرت القرى المحيطة مشعلة جحيم القرية الصغيرة، بانفجارها قرب «حسينية خديجة الكبرى». وعلى رغم وجود أصوات قليلة وجّهت أصابع الاتهام إلى «الجيران»، غير أن العقلاء تدخلوا سريعاً لقراءة الحدث على أنه محاولة مكشوفة لإثارة الفتنة بين قريتَي سكّرة وتل أحمر من جهة، والثابتية البالغ عدد سكانها 5 آلاف شخص من جهة أخرى. في اليوم التالي للحدث المؤلم، تحول موقع التفجير إلى مهرجان تضامني بين الثابتية ومحيطها. وكان عدد من أهالي سكّرة والريان قد شاركوا في عمليات الإسعاف والإنقاذ ورفع الأنقاض في الثابتية، ثم ترميم البيوت المدمّرة لاحقاً. مختار الثابتية، حسين محمد الأسعد، يتذكّر لحظات التفجير، معتبراً أنه «نُفّذ لإشعال خط القرى الآمنة وسط محيط واسع من العنف». ويقدّر الأسعد عدد شهداء الثابتية على مدار سنوات الحرب بـ86 شهيداً، معظمهم في الجيش. وللدولة السورية دور في رعاية التواصل الذي جرى بين أهالي القرى وتشجيعه وتقويته، من خلال رعاية مهرجان للمصالحة يُدعى «خيمة وطن»، ضمّ أبناء 65 قرية في المنطقة، وجاء تتويجاً لاجتماعات أهلية متتالية.

«داعش» القلق الوحيد
لم يدخل الجيش السوري إلى سكّرة أبداً، واقتصر الأمر على رعاية التنسيق بين أهالي القرى المتداخلة، لوضع حواجز لجان شعبية على مداخلها. ولدى رئيس مجلس سكّرة، أحمد عودة، رأي حول عدم انجرار أبناء بلدته نحو العنف، إذ إن «باقي المناطق تورّطت في النزاع المسلح لأن وجهاءها تساهلوا منذ البداية أمام أبنائهم». ويتابع عودة، في حديثه إلى «الأخبار»، أنه «عند وصول السلاح إلى شبّان تلك المناطق، أضحوا أقوى من وجهائهم، بينما نحن لم تتوقف اجتماعاتنا لما فيه خير أهلنا حتى اللحظة. هدفنا تحسين منطقتنا».
تعتمد البلدة على الزراعة البعلية، إضافة إلى زراعة الزيتون واللوز والكرمة. وتحتوي على 3 مدارس لجميع المراحل، إضافة إلى مدرسة شرعية تضمّ ما يقارب 150 طالباً. كذلك توجد في البلدة نقطة طبية، معظم العاملين فيها من القرية نفسها، فيما الطبيب الوحيد الموجود فيها هو من قرية الريان المجاورة. أبو فراس من بلدة زيدل القريبة يؤكد كلام عودة، مركّزاً على أن قلق الأهالي الوحيد تمثّل في الخروقات المتكررة من قِبَل «داعش» في أقصى الشمال الشرقي من بلدة المخرم. وبهذا، يبدو واضحاً دور الأهالي، والوجهاء بشكل خاص، في ضبط وضع هذه المنطقة أمنياً، عبر فرض نوع من «الأمن الذاتي»، ضمن إرادة جماعية في منع تغيير نسيج القرى الاجتماعي، أو الخروج عن عهود الجيرة والمشاركة بين القرى المتداخلة.