الغاية الرئيسية للأطراف الإقليمية والدولية التي شنّت الحرب على سوريا منذ ثماني سنوات تحت ذرائع شتى، كانت ضرب الدور المركزي الذي أدّته في التصدي للمشاريع الأميركية ـــ الإسرائيلية.مع بداية الألفية الثانية، وانتقال أصحاب هذه المشاريع إلى الهجوم بذريعة الحرب على الإرهاب وصياغة شرق أوسط جديد، كانت لسوريا مساهمة رئيسية في إفشال هذا الهجوم على جبهاته الثلاث: العراقية واللبنانية والفلسطينية. التوصيف الأدق لهذا الدور في تلك الفترة كان الممانعة، أي قيام الذين غُزُوا في ديارهم بمقاومة الغزاة بجميع السبل والوسائل المتاحة، ومنعهم من الاستقرار وتحقيق أهدافهم. وقد شاركت في عملية التصدي لهذا الاجتياح البربري أطراف عدة، دولتية وغير دولتية، ونجحت في مهمتها.
لكن قوى المحور المعادي لم تتقبل نتائج هزيمتها في العراق ولبنان وغزة، وقررت انتهاز أول فرصة للهجوم مجدداً، على الحلقة المحورية السورية هذه المرة. وهذا ما فعلته في آذار 2011، عندما اعتقدت أن بإمكانها استغلال أزمة داخلية، تكثر مثيلاتها في العديد من الدول النامية، لتحويلها إلى حرب ضروس تفضي إلى تدمير الدولة والمجتمع السوريين. من الممكن القول، بعد ثماني سنوات، إن هذه الحرب فشلت في تحقيق أهدافها، على الرغم من الأهوال البشرية والمادية التي سبّبتها، بل إنها على المستوى الجيوسياسي أدت إلى تحول كبير في موازين القوى، انتقلت معه أطراف الممانعة إلى وضعية المواجهة، بحسب الاتهامات الأميركية والإسرائيلية المتزايدة في الآونة الأخيرة. أفضت الهجمة الجديدة إلى عكس ما ابتغته قواها، ما يفتح الباب أمام احتمالات شتى في المستقبلين القريب والمتوسط.
رأى الكثيرون عند بداية الأزمة في سوريا أنها جزء من موجة ثورية طال انتظارها تجتاح العالم العربي بعد الحريق الذي شبّ في تونس ومصر. لم يلتفت هؤلاء، والأصح بعضهم من حسني النية، إلى ما عَنَتْه السابقة الليبية مع دخول الـ«ناتو» على خط الأزمة، وقيادته الحرب ضدّ نظام معمر القذافي حتى إسقاطه، وتصفية الأخير جسدياً، وتقسيم ليبيا. لقد راعت الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر، البلدين الحليفين للغرب، قواه المسيطرة، ودفعته إلى التدخل في سياق الموجة الثورية لمحاولة السيطرة عليها، وحرفها عن مسارها، ودعم القوى والأطراف المستعدة للتسليم باستمرار هيمنته الاستراتيجية والاقتصادية على المنطقة. هذا التدخل آذن ببداية الثورة المضادة بقيادة الغرب، الذي سرعان ما انتقل من ليبيا إلى سوريا. ما شهده العالم العربي في تونس ومصر واليمن والبحرين كان بالفعل بداية مسار ثوري داخلي، لكنه حفّز، كما هو حال جميع الثورات في التاريخ المعاصر ومنها الفرنسية والروسية مثلاً، القوى المتضررة منه، دولية كانت أو إقليمية أو محلية على الهجوم المضاد لوأده أو حرفه عن مساره.
لكن سوريا ليست ليبيا. وما نجح في الثانية بفعل العدوان الخارجي أساساً، فشل فشلاً ذريعاً في الأولى بفضل ثبات قيادتها، وصمود جيشها، وهبّة حلفائها لمناصرتها مع تعاظم التدخل الخارجي. ومع الانجلاء الجزئي والتدريجي لغبار الحرب الكثيف، اتضح أن عدة صراعات خيضت تحت سقف الأخيرة، أهمها ذلك المستمر مع إسرائيل. هي في الحقيقة كانت طرفاً غير رسمي فيها في مراحلها الأولى، لكنها أصبحت لاحقاً طرفاً بارزاً يعلن رئيس وزرائها، بنيامين نتنياهو، مسؤوليته عن مئات الغارات، يليه رئيس هيئة أركانها السابق، غادي أيزينكوت، ليتبنى آلاف «الهجمات»، أي إن مشاركتها لم تقتصر على ضربات من الجو فقط، بل على عمليات على الأرض.
من المفترض أن يدفع ظهور هذه الحقائق إلى تغيير مواقف بعض حسني النية الذين شكّكوا في صحة قرار أطراف محور المقاومة الذهاب إلى القتال في سوريا. عملية بناء القدرات العسكرية والصاروخية ومراكمتها تحت النار الإسرائيلية التي شرعوا بها مع تطور الصراع جعلت من سوريا ولبنان، من منظور إسرائيلي، منصة هجومية. مَن يعرف طبيعة الكيان الصهيوني ودوره الوظيفي مع القوى الغربية، باعتباره جيشاً يمتلك دولة وليس دولة تمتلك جيشاً، يعلم أن قادته اليوم لا ينامون نوماً هنيئاً، وأن الانتصار على الساحة السورية وما قد يترتب عنه في المستقبل هما من أسوأ كوابيسهم.