التغريدة الأخيرة قبل أن تُغلق عليه أبواب اجتماع «هلسنكي» والرئيس فلاديمير بوتين. على منوال الاعتراف بالحماقة، نسج ترامب بعضاً من المواقف التي ردّدها في المؤتمر الصحافي الذي جمعه بالرئيس بوتين، وتأريخه ولادة العلاقات الروسية مجدداً «مع بزوغ الساعات الأربع» التي أمضاها والرئيس بوتين في هلسنكي. وقبل تلك الساعات المعدودات، سديم من «التهوّر والحماقة»دار فيه كل من سبقه من رؤساء أميركيين إلى البيت الأبيض.ورغم أنّ سقف التوقعات بتحقيق «معجزات» أو اختراقات في هلسنكي لم يكن عالياً قبل انبساط الخلوة الرئاسية المزدوجة، بسبب إحاطتها حتى اللحظات الأخيرة بالكثير من التحفظات الكلاسيكية والضرورية التي يجيدها الدبلوماسيون، لتجنب اتهامهم بالفشل أو المبالغة بالتفاؤل، إلا أنّه كان ينبغي انتظار المؤتمر الصحافي لتلمّس أثر هذه المقاربة الجديدة لترامب في العلاقات مع روسيا التي ملك زمامها لتسمح في «هلسنكي» بتقاطعات فعلية، إحدى ساحاتها الملف السوري. ذلك أنّ الملفات الأخرى، كتمديد اتفاقات الحد من التسلح النووي وتفرعاته، تصدر عن رزونامة تقنية تقليدية متفق على آلياتها بين الطرفين.
تفرع الملف السوري بشكل واضح نحو «توفير أمن إسرائيل» بالتزامن مع قصف المقاتلات الروسية، للمرة الأولى، تجمعات المسلحين عند خط فصل القوات في الجولان، وانعدام أي حصانة لها باقترابها من الخط الذي كانت إسرائيل توفر له حماية جوية ومدفعية في كل مرة اقتربت منه وحدات الجيش السوري. وبدا واضحاً أنّ التفاهم على عودة الجيش السوري، في العملية الجارية لاستعادة الجنوب السوري من المجموعات المسلحة، والانتشار خلف خطوط وقف إطلاق النار بموجب اتفاق أيار ١٩٧٤ بين الجولانين المحتل والمحرر، كما قال الرئيس بوتين، يواكبان نقاشاً إسرائيلياً روسياً أميركياً، إذ سمح كلام «هلسنكي» عن عودة الجيش السوري إلى خطوط وقف اتفاق إطلاق النار لعام ١٩٧٤، بالكشف عن وجود تفاهم مبدئي بين ترامب وبوتين. أتى الكلام الأميركي الروسي عن سوريا في هلسنكي من بوابة الحديث خصوصاً عن «أمن إسرائيل» التي لم تعد تكتفي بإعادة تطبيق حرفي لاتفاق أيار ١٩٧٤ مع انهيار قوات «الايندوف» (قوات الطوارئ الدولية) بعد أسابيع قليلة من آذار ٢٠١١، وتحتاج إلى القيام بأعمال في سوريا لضمان أمنها، إذ قال الرئيس ترامب «تكلم كلانا مع (بنيامين) نتنياهو. الإسرائيليون يريدون القيام ببعض الأعمال في سوريا مرتبطة بأمن إسرائيل، وفي هذا المجال نحن سنعمل من أجل مساعدة إسرائيل، وهي ستعمل معنا. بلدانا سيعملان معاً». وقال الرئيس بوتين «أمضى ترامب وقتاً طويلاً يتحدث (عن) إسرائيل خلال محادثاتنا. إن الشروط متوافرة لتعاون جدي حول سوريا». ورغم أنّ الإجراءات والتدابير التي يطالب بها الاسرائيليون ليست واضحة، إلا أنّ انعدام الرد الاسرائيلي على عمليات القصف الروسية الجارية في الجنوب السوري، يوحي بأنّ النقاش لا يزال جارياً في ما يتعلق بمرحلة ما بعد العودة السورية إلى خطوط الفصل، رغم تبنّي الروس والاميركيين، كما قال الرئيس دونالد ترامب، «العمل من أجل أمن اسرائيل، أنا وبوتين متفقان على ذلك».
مسار هلسنكي الذي انطلق لم يأتِ على حساب حليف روسيا الإيراني


ومع اقتراب الجيش السوري من خطوط وقف إطلاق النار في الجولان، يفترض الرئيس فلاديمير بوتين أنّ عودة الجيش السوري إلى خطوط الفصل لعام ١٩٧٤ ، وبكلام آخر إلى ما كان عليه الوضع قبل آذار ٢٠١١، «سيوفّر السلام في منطقة الجولان ويؤدي إلى علاقات أكثر سلمية بين سوريا وإسرائيل، وسيوفر الأمن لدولة إسرائيل».
بوابة أخرى مهمة لفهم إلى أيّ حد يذهب الروس بعد ثلاثة أعوام من نزولهم عسكرياً في سوريا، في الاستثمار سياسياً في الانجاز الجاري انطلاقاً من المنصة السورية التي ساعدتهم على العودة بقوة إلى الساحة الدولية، وتخفيف الضغوط الأميركية والأوروبية عليهم في أوكرانيا، والتقارب مع تركيا، والرهان على إبعاد الجناح الجنوبي لحلف شمال الاطلسي عن مركزه الأميركي. الرئيس بوتين تحدّث عن دور لروسيا في بناء سلام سوري إسرائيلي ما بعد استعادة الجنوب السوري، وقال «أريد أن أؤكد أنّ روسيا مهتمة بذلك وستعمل من أجله، وإذا ما توصلنا اليه، فسنخطو نحو بناء سلام دائم وفقاً للقرار ٣٣٨» (الصادر في تشرين الاول من العام ١٩٧٣، والذي ينص على تطبيق كامل القرار ٢٤٢، ومباشرة مفاوضات من أجل سلام عادل في الشرق الأوسط).
إنّ عدم تبلور تفاهم روسي أميركي، أقلّه في تقديم الرئيس بوتين ضمانات أمنية لإسرائيل، واعتبار أنّ عودة الجيش السوري إلى خطوط الفصل، وتطبيق القرارات الدولية يشكلان ضمانة للسلام والامن، يعني أنّ مسار هلسنكي الروسي الاميركي لم يأتِ على حساب حليف روسيا الإيراني، خصوصا أنّ الرئيس بوتين كرر اعتراضه المعروف على نقض الولايات المتحدة للاتفاق النووي مع إيران. ويحتفظ الرئيس الروسي بذلك بأوراق مهمة للذهاب حراً من أي تعهدات مع الولايات المتحدة الى القمة الثلاثية التي تجمعه نهاية هذا الشهر في طهران، بالرئيسين التركي رجب طيب أردوغان، والإيراني حسن روحاني.
أعاد المسار الذي تفتتحه هلسنكي بوتين لاعباً دولياً أساسياً، أحيا الندية في العلاقات مع الولايات المتحدة، وخطف الاضواء في القمة التي لم يجد أحد صقور الجمهوريين، السناتور جون ماكين، ما يصفه بها سوى القول: «إنها اسوأ لحظة في تاريخ الرئاسة الأميركية».