مع اقتراب أي استحقاق كروي ضخم، يعتمر الجمهورَ شعوران أساسيان: حماسٌ لمشاهدة المباريات وقلقٌ من كيفية مشاهدتها. التطور المهول لصناعة البث التلفزيوني وما نتج عنه من تعدد في «الباقات» أبعدَا جمهور الطبقة الفقيرة تدريجياً من «الكاتالوغ» وهذا أمر مجحف بلا شك، إذ وجد البعض صعوبةً قسرية في مقايضة مدخولهم الشهري مقابل مشاهدة «لعبتهم» وهذا أمر حقيقي بلا شك.
ورغم ارتفاع صرخة المشجعين، إلا أنها لم تُسمع لدى النخب. ففي خطابات الاتحاد الأوروبي لكرة القدم مثلاً، تكثر الشروحات والتبريرات المبطنة دون طرح أي حلول ملموسة لجعل مباريات «يورو 2024» متاحة للجميع.

وقبل انطلاق بطولة أمم أوروبا بنسختها الجارية، أشادَ «يويفا» بالتغطية التلفزيونية والرقمية للمسابقة، حيث أصدر بياناً مدح فيه «البنية التحتية الاستثنائية للبث وإنشاء المحتوى التي توفر الحدث في ألمانيا وفي جميع أنحاء العالم».

بحسب «يويفا»، تمّ بث كأس الأمم الأوروبية 2024 على مستوى العالم في أكثر من 200 منطقة من خلال ما يزيد على 130 شريك نقل إلى جمهور تراكمي مباشر يفوق خمسة مليارات شخص كرقم تقديري، مع وجود ملايين آخرين يتابعون البطولة عبر الإنترنت.

ويعزو الاتحاد الأوروبي لكرة القدم ارتفاع قيمة حقوق البث إلى زيادة الطلب العالمي، والتي يوفر بيعها، بحسب البيان، الجزء الأكبر من إيرادات بطولة أوروبا للرجال التي يعيد «يويفا» استثمارها مرة أخرى في تطوير كرة القدم ضمن مختلف أنحاء القارة العجوز.

طبعاً، هناك تكلفة تشغيلية ضخمة جداً لنقل مباريات «يورو 2024»، بدءاً باستخدام معدات متطورة منها 46 كاميرا لكل مباراة... وصولاً إلى انتشار ما يقرب من 1800 موظف في الملاعب الألمانية العشرة المستضيفة وأكثر من 400 في مركز البث الدولي (IBC) في لايبزيغ. لكن الأكثر تأكيداً، أن هذه الاستثمارات الضخمة سوف تعود على «يويفا» وشركات البث بأرباحٍ تفوق أضعاف ما دُفع.

يدعم ذلك المنحنى التصاعدي لعائدات «يويفا» التقريبية من حقوق بث بطولة «اليورو» على امتداد السنوات. ففي بطولة أمم أوروبا 1980 في إيطاليا، بيعت حقوق البث مقابل 2.2 مليون دولار، واستفاد «يويفا» حينها من بداية ثورة النقل التلفزيوني الحاصلة آنذاك، عندما تمّ تحرير البث في جميع أنحاء أوروبا مدعماً بالتقدم التكنولوجي، ما جعل كرة القدم سلعةً مربحة.
وجد البعض صعوبةً في مقايضة مدخولهم الشهري مقابل مشاهدة «لعبتهم»


ارتفعت بعدها العائدات مع تطور شكل المسابقة وزيادة الإقبال على مشاهدتها، ليتم بيع حقوق بث «يورو 1984» في فرنسا مقابل 3.2 ملايين دولار، وهو رقم شابه مبيعات حقوق بث بطولة يورو 1988 و 1992.

وفي بطولة يورو 1996 التي استضافتها إنكلترا، أثبتت المسابقة تضاعف جاذبيتها بالنسبة إلى قنوات البث حيث حصلت المحطات الإنكليزية على جزء كبير من الحقوق مقابل 27.5 مليون دولار، ما مثّلَ زيادة كبيرة، وشهدت تلك النسخة «ابتكارين» من الاتحاد الأوروبي لكرة القدم: توسيع البطولة إلى 16 فريقاً وإدخال قاعدة «الهدف الذهبي».

حقّق «يويفا» في ذلك العام 71 مليون جنيه إسترليني من حقوق البث، وهو رقمٌ زاد في بطولة يورو 2000 في بلجيكا وهولندا، حيث بلغت حقوق البث 96 مليون جنيه إسترليني.

وارتفعت بعدها إيرادات «يويفا» بشكل كبير في النسخ اللاحقة لأسبابٍ مختلفة أهمها تطور إدارة التسويق، حيث عادت مبيعات بث بطولة أمم أوروبا 2004 في البرتغال على خزائن «يويفا» بمبلغ 545 مليون يورو، وفي النمسا وسويسرا عام 2008 بـ 1.3 مليار يورو، وفي بولندا وأوكرانيا عام 2012 بمبلغ مليار يورو، ثم في فرنسا عام 2016 بمبلغ 1.3 مليار يورو، وأقل من 2 مليار في يورو 2020.

التطور المهول في الاتفاقيات المربحة يسلط الضوء على النجاح التجاري للاتحاد الأوروبي لكرة القدم من خلال الابتكارات الإستراتيجية والتكيّف مع متطلبات السوق.

لكن، وبغضّ النظر عن قيام «يويفا»، كما يزعم، بإعادة توظيف العائدات في القطاع الكروي لتطويره، يبقى المشجعون أكبر المتضررين نتيجة ارتفاع تكلفة اشتراك الباقات الناقلة للحدث، ما يستوجب تدخلات حازمة مثل وضع ضوابط أكثر على هوامش ربح الشركات الناقلة للبث وعدم إعطاء حصرية النقل لشركة واحدة في نطاق جغرافي واسع، بهدف ضمان مشاهدة جميع المشجعين لبطولة «يورو» وغيرها مستقبلاً.