على ضفاف نهر كلايد غربيّ السهول الوسطى الإسكتلندية، تقع مدينةٌ تدعى غلاسكو. المدينة المزدهرة التي باتت إحدى أكبر مدن المملكة المتحدة، كانت في ما مضى مسرحاً للخلافات الطائفيّة، التي لا تزال تداعياتها مستمرة حتى اليوم. ولعل أبرز تمظهرات الخلاف تبرز في الندية الكبيرة بين ناديي رينجرز وسلتيك. الأخير الذي استقر أسلافه المؤسسون في غلاسكو منذ القرن الثامن عشر، يشتهر بجمهوره الداعم لفلسطين والمناصر لقضايا المستضعفين. لكن كي يعي العالم سبب تعاطف هذا الجمهور مع الشعب الفلسطيني، لا بدّ من الغوص في التفاصيل.تُنشد جماهير سلتيك خلال مباريات الفريق أغنيةً شعبية إيرلندية كُتبت في سبعينيات القرن الماضي تدعى «حقول الآثينري». تتحدّث الأغنية عن قصة عائلة نُزعت منها أراضيها وتُركت للجوع بسبب المجاعة الإيرلندية، ثم أُلقي القبض على «مايكل» رب العائلة لأنه سرق الطعام من الشخص الذي نزع أرضه منه، لتُترك زوجته لإعالة نفسها وطفلها. المشهد المأساوي الذي تعرضه الأغنية يلخّص زمناً أسود شهدته إيرلندا، حين أصيبت في منتصف القرن الثامن عشر بما عرف بـ«مجاعة البطاطا». اعتمد ثلث سكان ايرلندا على أكل البطاطا واعتمادها غذاءً، بسبب الفقر المدقع، إلا أنّ آفة زراعية ضربت أوروبا وأتلفت المحصول. وكانت ايرلندا تعيش معاناة واضطهاداً أوقعتهُ الأقلية البروتستانتية على الأكثرية الكاثوليكية في القرنين السابع عشر والثامن عشر، إذ مُنعَ الكاثوليك من تملك الأراضي ومن التعليم ومن حق الانتخاب. وبعدما صودرت الأراضي الزراعيّة الخصبة ليستغلها الإقطاعيون البريطانيون، تُركَت للإيرلنديين مساحات زراعية صغيرة، لم يتمكنوا إلا من زراعة البطاطا فيها، التي تحولت لاحقاً إلى مصدرٍ رئيسي لغذائهم. هكذا، سبّبت الآفة الزراعيّة خسارة المحصول في عدة مواسم، مسببةً وفاة مليون ونصف مليون من السكان بسبب الجوع والأمراض، وهجرة مليون آخر إلى العديد من الأماكن، ومنها الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا. هرب الكثيرون إلى اسكتلندا واستقروا في غلاسكو، لكنهم عوملوا بعنصرية ودونيّة بسبب انتمائهم إلى الكنيسة الكاثوليكية بدل البروتستانتية حينها. إلا أنه في عام 1887، قرر راهب ايرلندي كاثوليكي يدعى أندرو كيرينز، تأسيس نادي كرة قدم للتخفيف من وطأة الفقر في مجتمع المهاجرين الإيرلنديين، وذلك عبر جمع الأموال لجمعيّة «والفريد الخيرية»، التي تزوّدهم بالطعام. ومن رحم الحرمان، انطلق مشوار نادي سلتيك. تلك الطبقة المُعدَمة التي تذوقت طعم البؤس والمرارة، تعرف شعور أن يُسلب المرء أبسط حقوقه وأن يتعرض للاضطهاد. هكذا، جعلت جماهير النادي قضايا المظلومين قضاياها أيضاً، وتعاطفت مع الفلسطينيين، لأنّ قصتهم تتشابه مع قصة أجدادهم.
«نحن نقف مع فلسطين. فلتتوقف المجازر الجماعية، لتتوقف جرائم الصهاينة». هذه الكلمات رفعتها الجماهير لدى مواجهتها فريق «هبوئيل بئر السبع»، في إطار تصفيات بطولة دوري أبطال أوروبا في العام ما قبل الماضي. اعتبر الجمهور المباراة فرصة مؤاتية للتعبير عن دعمهم لشعبٍ سُرقت أرضه قسراً بفعل الانتهاكات الإسرائيلية، مُتَحَدّين بذلك الاتحاد الأوروبي لكرة القدم (اليويفا)، الذي يمنع التظاهرات السياسية في المباريات (كما هو موضح في المادة 16 من لائحة العقوبات). من بقعةٍ صغيرة في غلاسكو، أرادوا إخبار الفلسطينيين أنهم غير منسيين. وبطبيعة الحال، فالاتحاد الأوروبي قرر معاقبة النادي، ربما غاب عن الاتحاد أنّ السياسة اقترنت بالكرة منذ نشأتها الأولى، وأنّ المدرجات لطالما كانت ملاذاً للتعبير عن الآراء السياسية، وغير السياسية دونما خوف من القمع أو الاعتقال. لكن الجمهور الاسكتلندي كانت له كلمته، ليطلق حملة تبرعات للفلسطينيين رداً على تغريم النادي بسبب رفعهم أعلام فلسطين. تتكرر مشاهد التضامن كثيراً، وتلك لم تكن المرة الأولى التي يتعرض فيها النادي للغرامة المالية، إذ عوقب الفريق 8 مرات في الأعوام الستة الماضية للأسباب نفسها، ولكن ذلك لم يثنِ من عزيمة الاسكتلنديين. وليس الفلسطينيون فقط من يحظون بالتضامن من جمهور سلتيك، إذ يؤازر الأخير الشعوب التي يرى أنها مظلومة ومستضعفة. مشواره في رفض الاضطهاد مرّ بدعم إقليم كتالونيا المطالب بالاستقلال عن إسبانيا، والتضامن مع شعب جنوب افريقيا في نضاله ضد التطهير العرقي، وصولاً إلى الترحيب باللاجئين السوريين. وتمّ تقدير جمهور سلتيك العام الماضي، إذ اختاره الاتحاد الدولي لكرة القدم (فيفا) ليفوز بجائزة أفضل جمهور في العالم. الجمهور الذي لا يعرف حواجز جغرافية ولا فروقات ثقافية، خَبَر مرارة الاستعمار وجور الاستبداد. أيام القهر ولّت بالنسبة إلى الاسكتلنديين، إلا أنّ شعوباً أخرى ما زالت ترزح تحت الظلم. وها هي جماهير سلتيك تناديها، لستم وحدكم، نحن معكم.