لم يكن الشارع الرياضي بعيداً عن شارع «الثورة»، لا بل شكّل في مكانٍ ما خط دفاعٍ، وضابط إيقاعٍ، وجناحاً قيادياً في مناطق مختلفة. رجال الرياضة من نجومٍ وجماهير كانوا حاضرين بأشكالٍ مختلفة، وهم الذين لطالما كانوا نوعاً من الوقود الذي استخدمه السياسيون لإطلاق حملاتهم الانتخابية ولإشعال الشارع في بعض الأحيان، ولتعزيز صورتهم الشعبية. لكن هذه المرّة كان الوضع مختلفاً تماماً: رواد المدرجات يشعلون نار الغضب في وجه السياسيين لا في ملاعب التنافس.لا يمكن فصل الشارع الرياضي عمّا يحصل في شوارع لبنان. هنا يقول شعب الملاعب كلمته بقوة من دون أي خوفٍ. يكشف عن هويته من خلال علم ناديه أو من خلال قميصه، أو من خلال الشعار الذي يحمله. ويأخذ معه حب النادي الذي يعشق إلى ساحات التعبير الحرّ، فالملاعب بطبيعة الحال كانت مساحة واسعة للتعبير عن مختلف الأمور منذ زمنٍ بعيد. السياسيون أرادوها على هذه الصورة أصلاً، فهم قاموا هناك بتغذية النزعة الطائفية فيها، مستندين إلى مناطقية الأندية المتعددة الطوائف، فخُلقت الحساسية الكبيرة بين النجمة والأنصار في كرة القدم مثلاً، وكذلك في كرة السلة حيث يقول مواكبو النهضة الكبرى للعبة أن المستديرة البرتقالية لم تكن لتصبح لعبة شعبية في لبنان لولا الصبغة المختلفة لقطبَيها الحكمة والرياضي.
(عدنان الحاج علي)

السياسيون أيضاً عمدوا دائماً إلى العمل على كسب ودّ رواد المدرجات، إذ رأوا فيهم المادة القادرة على ملء صناديق الاقتراع لمصلحتهم، فاستمالوهم من خلال تأمين الرعاية والمتمولين للأندية، والأمثلة كثيرة، تبدأ من استحواذ تيار المستقبل على الأنصار ثم النجمة (ولو أن التجربة لا تعتبر ناجحة بفعل عدم إمكانية اختصار جمهوره بشارعٍ معيّن)، وأيضاً الرياضي الذي يعتبر من «حصته» السياسية. أما القوات اللبنانية فقاتلت دائماً لكي لا تخسر نادي الحكمة، ليردّ التيار الوطني الحرّ في ساحة كرة السلة مستميلاً الشانفيل من خلال المتموّلين...
إذاً القصة ليست جديدة، لكن الفارق الآن أن الشارع الرياضي بأكمله أصبح مدركاً لكل تلك الخدع، ولم يعد يرضى بجوائز الترضية، ألا يرى هو أيضاً الاستنزاف الذي تعيشه أنديته؟ ألا يرى أيضاً أن غالبية الأندية متروكة ومنبوذة من قِبل مرجعياتها؟ أليس هذا سبباً كافياً ليشعر الجمهور بالقهر في كل مرّة يطارد الفشل ناديه، والسبب هو النقص المادي وعدم اكتراث من هو محسوب عليهم بأحواله وأحوال الرياضة عامة؟
ببساطة، الأهواء تبدّلت، والنظرة إلى السياسيين أيضاً، فهم في نهاية المطاف يقتلون بقراراتهم المتنفّس الوحيد للبنانيين، أي حيث يذهبون لإخراج كل شيء من صدورهم، كون الملاعب هي مساحة للتعبير ولإطلاق الحماسة إلى أقصى الدرجات وللتفوّه أحياناً بأمورٍ لا يمكن قولها لا في المنزل ولا في العمل ولا في الشارع حتى. لكن مهلاً هناك من لم يعد يستطيع أن يشتري تذكرة الدخول إلى الملعب، فهو أصلاً سيتكبّد مبلغاً غير بسيط في حال أراد اصطحاب أطفاله لحضور مباراةٍ ما.

من هنا، أصبح من الأفضل بالنسبة إليه اصطحابهم إلى ساحات «الثورة». هناك على الأقل سيتعلمون رفع الراية الوطنية بعيداً عن الطائفية والمناطقية، ولو أن الكثير من الأهازيج المستخدَمة في الملاعب كانت حاضرة بقوة، لكن بأسماء مغايرة. هي أسماء السياسيين الذين نالوا نصيبهم ممن ظنوا أنهم يملكون أصواتهم وصيحاتهم.

كرة القدم الحاضر الأقوى
المشهد لم يكن غريباً في ساحة رياض الصلح أو غيرها من ساحات التظاهرات، لكن الحال أيضاً يعكس «مناطقية» الألعاب من خلال ردّ فعل المحتشدين إن كان من خلال ذكر رياضتهم المفضلة أو من خلال القمصان التي يرتدونها أو الإعلام التي يرفعونها بموازاة حملهم للعلم اللبناني.
وبالتأكيد الحصة الأكبر هي لكرة القدم، فلا بدّ أن تحضر بقوة كما هي العادة، ولا بدّ أن يشكّل جمهورها عصباً للتظاهرات، ويتحوّل قائداً لأوركسترا الهتافات والموشحات، فالمستديرة هي لعبة الفقراء في نهاية المطاف، والفقراء كانوا في الشارع، وهي لم تفارقهم أيضاً. هنا يحضر المشهد من أوتوستراد الصرفند حيث يقطع شبان الطريق ويستمتعون بتناقل الكرة مقدّمين لوحات مهارية جعلت الفيديو الخاص بهم من أكثر الفيديوهات مشاهدة عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
ومن قلب المشهد في بيروت يطلّ شابٌ في اليوم الأول من التظاهرات ليدعو جمهور النجمة للنزول إلى الشارع. هنا يمكن الشعور بأن الأمور ستصبح أكثر من جديّة، فجمهور النجمة كان أول من وجّه تحذيراً إلى السياسيين عندما رفع لافتة في مدرجات ملعب مدينة كميل شمعون الرياضية كُتب عليها: «الشعب إذا جاع بياكل حكامه».
الشارع الرياضي بأكمله أصبح مدركاً لخدع السياسيين بعدما لمس الاستنزاف الذي تعيشه أنديته


لم يمضِ وقتٌ طويل على هذا النداء حتى «أكل» هذا الجمهور قسماً من شوارع بيروت، ليلتقي «ألتراس سوبرنوفا» النجماوي مع «ألتراس أنصاري» على قضية وطنية، فالوجع يجمع تماماً كما تجمع مدرجات المنتخب الجمهورين اللدودين تحت راية موحّدة، ولو أن هذا المشهد غاب في الفترة الأخيرة لسببٍ بسيط، وهي أن هموم المواطنين قلّصت من ارتباطهم بأي شيء يرتبط بالوطن. لكن من دون شك ستتغيّر الصورة في الاستحقاق المقبل، إذ مخطئ من يعتقد أنه لن يكون هناك تأثير لـ«الثورة» على إعادة إحياء الروح الوطنية في كل المجالات.
أعداد جماهير كرة القدم تزداد تباعاً، فهناك فتاة تخترق النيران المشتعلة في وسط بيروت حاملةً علم النجمة والابتسامة العريضة تعلو محياها. شبانٌ بقمصان النجمة والأنصار هناك على مسافة قريبة من ملعب الأنصار بعد قطعهم لطريق المطار. هم بدوا وكأنهم يحرسونه بسبب بقائهم لفترةٍ طويلة هناك، فتجميد النشاط الكروي في نهاية الأسبوع جعل كلّ الملاعب ساحات مهجورة، لكن هذا التوقف القسري لم يبعد روادها عنها، فتعلّقهم بها هو كتعلّق الطفل بوالدته، لذا لم يكن مستغرباً أن يستحضر أحد الشبان فكرة هدم ملعب بيروت البلدي، فيبدأ فجأة في إطلاق الشتائم بحق من يجرّد الشباب من كل شيء في هذا البلد.
اللاعبون أيضاً لم يغيبوا عن المشهد، ومنهم الأجانب، فالثنائي التونسي حسام اللواتي (الأنصار) ومراد الهذلي (النجمة) كانا في الشارع. هما اختبرا أصلاً معنى الثورة الناجحة في بلادهما، وربما تبدو «ثورتنا» حتى الآن جزءاً بسيطاً مما عاشه الشارع التونسي الذي عكس فعلاً معنى كلمة ثورة، مُطلقاً ما سُمي حينها بـ«الربيع العربي».


وكما هو حال قطبي الكرة اللبنانية جماهيرياً، حضر لاعبون من الفريقين أيضاً، فتواجد مدافع النجمة علي السعدي قادماً على دراجة نارية خلف أحد أصدقائه، ومثله اللاعب الدولي نصار نصار من الأنصار، والحارس محمد طه من شباب البرج، وزميله السابق في الصفاء حسن مهنا، الذي ربما يشعر اليوم أكثر من غيره بمدى ضيق الأزمة المادية التي تعيشها الأندية التي تدور في فلك حضانة السياسيين. وتناقل الجمهور صورة لاعب النجمة ومنتخب لبنان نادر مطر وهو يرتدي قميص ألتراس «سوبر نوفا» ويحمل العلم اللبناني بين المتظاهرين في وسط بيروت.
هو الاعتراض على العهد وحكومته ما أنزلهم كلّهم إلى الشارع. أمرٌ تختصره لافتة حملها أحد الشبان وتقول: «حتى العهد الرياضي طلع أقوى من العهد السياسي».

لاعبو الباسكت «مش كلاس»
الأزمة المادية المتفاقمة التي تعيشها كرة القدم على أكثر من صعيد، ليست بعيدة عن كرة السلة أيضاً، فالإنذار الذي كان قد أطلقه قبل أسابيع رئيس الاتحاد اللبناني للعبة أكرم الحلبي كان واضحاً: «اللعبة في خطر، والنقل التلفزيوني في خطر أيضاً».
هو أمر غير مستغرب، إذ أن وزير الاتصالات محمد شقير كان أوضح بتوجهه نحو إلغاء رعاية شركة «ألفا» للنشاطات الرياضية، وهي التي تعدّ عملياً بحسب بعض الجهات «المخلّص» بالنسبة إلى كرة القدم وكرة السلة، وخصوصاً الأخيرة التي كادت تغيب عن الشاشات قبل أن يأتي الحلّ الإنقاذي، ولو أن كثيرين تحفّظوا عليه أو لا يزالون يعترضون على اعتماده.

أمرٌ واضح من خلال إصرار شاب على الإدلاء بطلبٍ وحيد بحسب ما يقول لمراسل محطة الـ «mtv» في جونية: «أنا بدّي ارجع احضر باسكت على التلفزيون لأن ما عم اقدر احضر المباريات».
طلبٌ تفاعل معه كثر عبر مواقع التواصل ومنهم أسماء معروفة في اللعبة معتبرين أن هذا المطلب يمثّلهم، فنشروا الفيديو الخاص بهذا الطلب المثير للضحك بالنسبة إلى البعض أو غير المهم بالنسبة إلى البعض الآخر. لكن إذا ما نظرنا إلى الشريحة الأكبر من المتوافدين إلى التظاهرات نجد أنهم من الجيل الجديد الذي ينتمي إليه هذا الشاب، ولا يمكن إغفال مدى أهمية الرياضة بالنسبة إلى هذا الجيل ومدى تأثيرها الإيجابي في إبعاده عن موبئات المجتمع.

إذاً جمهور الباسكت «مش كلاس» كما يعتقد البعض، ولا نجوم اللعبة أيضاً، ولو أن الكثيرين ينظرون إليهم على أنهم أثرياء، ويصفهم البعض بأنهم أصيبوا بالجشع ولا يكتفون من جمع الأموال، أو يختصرهم البعض الآخر بأنهم الطبقة الغنية في الرياضة اللبنانية.
هم أثبتوا عكس ذلك، ففي ثاني أيام الثورة أطلّ فادي الخطيب بفيديو مؤثر من الخارج متمنياً لو أنه يتواجد بين المتظاهرين، وواعداً بنزوله إلى الشارع فور وصوله إلى بيروت، وتاركاً كلاماً مؤثراً في الروح الوطنية التي ولدت فيه وفي زملائه الذين شرفوا اسم لبنان أكثر مما فعل كثيرون ممن أسندت إليهم قيادة البلاد، فأخذوها إلى الهاوية. عاد الخطيب ونزل إلى التظاهرات في وسط بيروت.
متظاهر يرتدي قميص نادي النجمة(هيثم الموسوي)

باسل بوجي وعلي حيدر من بين هؤلاء، وهم ظهروا في وسط بيروت إلى جانب مسجد محمد الامين كأيّ فردٍ من أفراد الشعب الذي حمل العلم اللبناني حصراً، تماماً على غرار ما حمله هؤلاء النجوم إلى الساحات الدولية. حضر أيضاً إلى التظاهرات روني فهد وعزيز عبد المسيح ووليد ضمياطي ونديم سعيد وغيرهم من اللاعبين.
المشهد الختامي في الزوق حيث يبدأ الامتداد باتجاه كل تلك المناطق التي تتنفس كرة السلة، فهناك وسط الحشود التي قطعت الطريق العام، كرة تطير ويتقاذفها المتظاهرون على وقع هتافٍ معروف: «Defense, Defense» أي «دفاع، دفاع». كلمة مناسبة وفي محلّها، فالكل نزل أصلاً للدفاع عن حقوقه، كرامته، لقمة عيشه، ووطنه المسلوب.