لم يتوقع أحد أنّ سوق الميركاتو، صيفياً كان أو شتوياً، سيبدّد واحدة من أهم قواعد كرة القدم الأوروبية. القاعدة تقول إنّ أبواب الانتقالات إذا فتحت فهي لن تفتح على مصراعيها، ولن تشهد صفقات من العيار الثقيل، وستكتفي الأندية بسد ثغراتها بصفقات صغيرة قبل العودة إلى معارك البطولات، الدوري و«شامبيونزليغ». الدوري الإنكليزي كان ساحة المفاجآت يومها. القاعدة سقطت عند بداية الميركاتو الشتوي الماضي. أتم ليفربول التعاقد مع فان دايك، تلاها رحيل كوتينهو، ثم مغادرة سانشيز نحو مسرح الأحلام، ولاحقاً انضمام أوباميانغ رسمياً لصفوف أرسنال. وكانت تلك المفاجأة، أرسنال بدأ يتغيّر.على غير العادة شهد نهج أرسنال في سوق الانتقالات تقلّباتٍ عدّة. العام الفائت كان له نصيب كبير من ذلك الميركاتو «التبذيري» في إنكلترا. أمر كان مستغرباً خصوصاً مع وجود مدير فني بشخصية وطباع «متحفظة». فمن يعرف أرسين فينغر «المستقيل أو المقال» جيداً، يعتقد أنه كان من الصعب أن تتم تلك الصفقات. رغم أن الفريق كان يعاني محلياً، ويقبع في المركز السادس ـ وليس الرابع كما درجت النكتة على أرسنال في السنوات الأخيرة ــ في البطولة وبعيدٌ عن المنافسة، لم يتوقع أحد أن يتعاقد أرسنال مع ميختاريان وأوباميانغ. نجح أيضاً بالتجديد لمسعود أوزيل، قبل أن يتخلص من والكوت، جيرو وديبوتشي، ويفتح خطوط اتصال للاستعلام عن أوبلاك وماكس ماير في سوق انتقالات واحدة فقط.
بدا الأمر أشبه «بثورة في الغانرز». هذا كان توصيف جون كروس رئيس تحرير فريق «ميرور» الرياضي للتعاقدات الأخيرة. الثورة بدأت مع إعلان أرسنال التوقيع مع سفين ميسلنتات كشّاف مواهب نادي بروسيا دورتموند، والحصول على خدمات راوول سانليهي المدير الرياضي السابق لبرشلونة، ليترقب الجميع إنجازاً جديداً للثنائي في لندن بعد نجاحات مدوية في ألمانيا وإسبانيا. لم يكذب الثنائي الخبر، وبدا لجمهور «الغانرز» بصمة إدارية جديدة في شؤون الفريق مع أول سوق انتقالات، آملين بمستقبل مختلف يعيد الأمجاد الماضية. أولى الخطوات كانت الصفقات. تلاها إقالة فينغر. المدرب صاحب الـ 70 عاماً أراد الاستمرار ولو لموسم واحد إضافي، لكن الإدارة رفضت، وفضلت إقالته ودفع قيمة الشرط الجزائي بقيمة 12.5 مليون يورو بحجة أن الفريق سيكون لديه مزيد من الفرص للعودة إلى دوري الأبطال من دونه.
صلاحيات ضخمة كان يستحوذ عليها فينغر داخل النادي اللندني. إدارة أرسنال منحت الفرنسي ثقة كبيرة في تسيير أمور الفريق، داخل الملعب وخارجه وعلى طاولة المفاوضات، بدا لأرسين وفريق عمله اليد العليا في تقرير كل شيء تقريباً. وبالتعاقد مع الثنائي ميسلنتات وسانليهي، بدت الإدارة عازمة على إشراك شخصيات جديدة ذات كفاءة وخبرة في إدارة شؤون الفريق الذي تراجع بشدة عبر السنوات القليلة الماضية. الإدارة أقنعت فينغر بالتخلي ولو قليلاً عن صلاحياته. قبل سنوات، كان فينغر يسخر من منصب المدير الرياضي. قَبِل مؤقتاً أن يعمل مع سانليهي حتى ولو بلقب وظيفي آخر. كان الفرنسي يستأثر في الماضي بتقرير من هو اللاعب المناسب للتعاقد معه، والسقف المالي للتفاوض، لكن بعد إقالته بدا جليّاً أن ميسلنتات قد بدأ بمزاولة عمله فعلاً في لندن. استراتيجية العمل السابقة الذي اعتمدها فينغر، برأي كثيرين أضاعت على أرسنال فرصاً عديدة، حتّى أنه لم يستثمر المتبقي من مسيرته في إحداث حالة من الانسجام مع الوافدين الجدد، وبالتالي تفادي أي خلافات ربما قد تنشأ لأي سبب. وبرأي آخرين، كان فنغر «معلِماً» يعرف كيف «يصطاد» النجوم ويصنعهم.
صلاحيات ضخمة كان يستحوذ عليها فينغر داخل النادي اللندني


ربما أصبح سفين ميسلنتات كشّاف مواهب بالصدفة. لم يكن المدير الرياضي لاعباً موهوباً ولم يملك قدرات تدريبية عالية. بعد تراجعه عن العمل كمساعد مدرب نال درجة بالعلوم الرياضية بجامعة «رور». أشهر قليلة كانت كفيلة لحصوله على فرصة لاختبار ما درسه عملياً، لكن الفرصة لم تكن سوى أزمة خانقة. موسم 2003/ 2004 كان موسماً مليئاً بالديون للنادي الألماني بروسيا دورتموند. ديون أرهقت كاهل النادي. الإدارة المالية السيئة التي تخطت حاجز المئة مليون باوند دفعت إدارة دورتموند إلى التفكير بإعلان الإفلاس، حتى إنّ بايرن ميونخ قام بمنح غريمه «الأصفر» منحةً ماليةً ليتمكن من دفع رواتب اللاعبين واستكمال الموسم. هذه الظروف دفعت الإدارة لاعتماد نمط جديد. التقشف والاستعانة باللاعبين الصغار، وطبعاً التوقف عن إبرام التعاقدات الضخمة. فمن يقوم بتلك المهمة؟ ابن مدينة دورتموند سفين ميسلنتات. في 2006، بدأ سفين العمل ككشّاف مواهب في دورتموند، إلى جوار مايكل زورك المدير الرياضي للنادي، الذي أصبح في ما بعد رفيق رحلته. مهمة ميسلنتات تلخصّت بالبحث عن عناصر شابة وموهوبة، تجيد اللعب في ظروف دورتموند حينها، وبأقل كلفة مالية. يتميّز ميسلنتات بقدرة كبيرة على التحليل العميق والإنصات لآراء مختلفة، بالإضافة إلى وضع يده على احتياجات الفريق الحقيقية. لكن أهم ما ميزه هو إيمانه بالدور الذي لعبه خلال تلك الفترة لإنقاذ دورتموند.
انطلق سفين، فالتقطت عيناه الجناح جاكوب بواشتشيكوفسكي من الدوري البولندي. فتح بعدها بوابات دورتموند لناشئي بايرن ماتس هوميلز، قبل أن يخطف ليفاندوفسكي من بلاكبيرن، بالإضافة إلى شينجي كاغاوا الذي يصفه ميسلنتات باللاعب الأهم في مسيرته ككشّاف مواهب. هذه الأسماء كانت نواة الجيل الذهبي لدورتموند، الجيل الذي فاز بالدوري الألماني لعامين متتاليين، وصعد لنهائي دوري الأبطال بعد أن أزاح في طريقه ريال مدريد كما بورتو. أضف لتلك المجموعة، أسماء أخرى أتى بها سفين لدورتموند. أوباميانغ، غندوغان، بوليسيتش، غيريرو، عثمان ديمبيلي، وجوليان فايغل، ليستحق بذلك أن يطلق عليه «العين الذهبية». كان هذا الجيل نتاج تعاون مثمر بين رؤية يورغن كلوب الفنية من ناحية، واختيارات فريق ميسلنتات المبنية على معايير محددة من ناحية أخرى، بكثير من الجهد والعمل المتراكم، وقليل من التحدي والمغامرة. لكن تجربة «سانليهي» في إسبانيا كانت مختلفة بعض الشيء. عمل كموظف تنفيذي بشركة نايكي، وأشرف على العلامة التجارية لنادي برشلونة لمدة خمسة أعوام متواصلة، قبل أن ينضم في 2007 لفريق البلوغرانا الإداري بقيادة الرئيس السابق خوان لابورتا. قامت خطة لابورتا على تجديد دماء النادي، حيث اعتمد على مجموعة تمتلك رؤية إدارية تستهدف تنمية موارد النادي، اجتذاب أفضل لاعبين، والصعود بنجم البرشا عالياً في سماء أوروبا. وشملت المجموعة فران سوريانو وتشيكي بيجريستين إلى جانب راوول سانليهي.
اكتسب سانليهي ثقة كبيرة عند الإدارة، إذ شغل منصب مدير فريق الكرة في برشلونة بالتوازي مع تولي غوارديولا المهام التدريبية. وبخلاف ميسلنتات لم تكن مهمة سانليهي هي البحث عن اللاعب المناسب للنادي، ولكن تركزت مهامه على إدارة المفاوضات مع الأندية الأخرى لحسم انتقال لاعب ما لكتيبة «البلوغرانا». سانليهي كان عاملاً رئيسياً في أغلب صفقات برشلونة الكبرى منذ توليه المنصب في 2007. نجح الإسباني بضم ماسكيرانو من ليفربول، أليكسيس سانشيز من أودينيزي، إيفان راكيتيتش قائد إشبيلية، بالإضافة إلى الهدّاف لويس سواريز. لكن أهم ما ميزه هو علاقاته القوية في أميركا الجنوبية، وفي هذا يتقاطع مع العائد إلى ميلان: ليوناردو. بدا ذلك واضحاً عندما أتم صفقة نيمار على حساب «الميرنغي»، الصفقة التي دارت حولها شبهات مالية حسمها في الأخير سانليهي بالرغم من كل العثرات. الإسباني رجل إداري وعملي بدرجة كبيرة، فقد جدد روسيل غريم لابورتا الثقة فيه عند توليه إدارة النادي. كذلك فعل بارتوميو لاحقاً، وهو مؤشر واضح عن التزام راؤول بدوره مع أي إدارة، ولنفس السبب فقد عزم راؤول على التخلي عن منصبه والبحث عن تجربة جديدة عند الفشل باستقطاب كوتينهو في الصيف الماضي كما نشرت بعض التقارير.




بعد نحو 22 عاماً قضاها الثعلب الفرنسي في أسوار المدفعجية، عزمت إدارة النادي على التعاقد من مدير فني صغير السن، قد يجلس في عرش فينغر. أوناي ايمري قدِم إلى ملعب الإمارات بعد موسمين قضاهما على ملعب حديقة الأمراء بباريس وتاريخ أطول بين فالنسيا وإشبيلية. نجح ايمري في الحصول على الثلاثية المحلية. هذه المرّة قد تكون فرصة لأرسنال من أجل أن يضع قدمه مجدداً على الطريق الصحيحً، ذلك لأن الثنائي «ميسلنتات ــ سانليهي» يمتلكان سجلاً مشرفاً للغاية. سجلٌ دفع كثيراً من الأندية للتفاوض من أجل الحصول على خدماتهما، قبل تفضيل الثنائي لأرسنال، لإحداث ثورة مع الفرنسي فينغر، ليتبيّن لاحقاً أن مضمون عملهما، ما هو إلا ثورة عليه شخصياً.