لم تعد المسألة رياضية، ولم يعد الأمر متعلقاً بكرة القدم. ما يحصل اليوم في قضية الاتحاد الدولي لكرة القدم هو مسألة سياسية بحتة تشبه مشهداً من مشاهد أحد الأفلام الأميركية، عندما يهمّ الرجل القوي ليقول لمتحديه: «لقد أخطأت مع الشخص الخطأ»، قبل أن يذهب ليُنزل أقسى عقابٍ به.
المسألة غير معقّدة ابداً، فهي جزءٌ لا يتجزأ من الصراع الكوني للقبض على مراكز القرار في العالم بين الدول العظمى، لذا لم يكن مستغرباً أبداً أن تصدر بيانات التحدي عن حكومات الولايات المتحدة وبريطانيا وروسيا، ويُقسم العالم إلى معسكرين عشية الانتخابات الخاصة برئاسة «الفيفا»، ويتدخل الكبير والصغير من الساسة من أجل تسجيل النقاط لحلفائه.
من هنا، قد يعتقد البعض أننا نتحدث عن لعبة كرة قدم أو عن نشاطٍ انتخابي روتيني، لكن الحقيقة أن الأمر أكبر بكثير، فالمسألة مسألة وجود في عالم الكرة بالنسبة إلى البعض، ومسألة تلميع صورة البلاد من خلال فرض حضور في رياضة قادرة على تسويق أي بلد يستضيف فعالياتها الكبرى. وهي أيضاً مسألة حصد أموالٍ كثيرة من خلال الصفقات بمختلف أنواعها. وهي مسألة أرقام صدمت الرأي العام عند الحديث عنها، إذ بما أن الرشى بلغت مئات الملايين، فإن الأرباح هي بالمليارات.
ويمكن الجزم أيضاً بأن ما يحصل هو فصلٌ جديد من الحرب الباردة الأميركية - الروسية فرضتها الظروف المستجدة، إذ لا تبدو معقّدةً معرفة أسباب تلك المواجهة بين الولايات المتحدة وغريمتها الأزلية روسيا على مسرح «الفيفا».
ببساطة، فشلت إنكلترا في السباق إلى استضافة مونديال 2018 لمصلحة روسيا، وفشلت حليفتها الولايات المتحدة في ملفها لاستضافة مونديال 2022 أمام قطر. نتيجة لم يتقبّلها الخاسران على الإطلاق، فخرجا إلى فتح كل الملفات، حيث تسلّمت المهمة الصحف الإنكليزية الشهيرة بفضح المستور، لتشكيل حلفٍ أوروبي جمعها مع الألمان والفرنسيين، لتضرب القطريين من كل حدبٍ وصوب، مركزةً على ملفات تثير اهتمام الرأي العام بعيداً من الرياضة، فذهبت إلى المسائل الإنسانية التي شهدت إدانةً عالمية.
في هذا الوقت، كان الأميركيون يترقبون ما يحصل ويستنطقون العضو السابق في اللجنة التنفيذية للفيفا تشاك بلايزر الذي كان أول من اعترف بفساده قبل عامين، فاستغلوا مشكلاته القضائية، وتحديداً تهربه من دفع ضريبة الدخل على ملايين الدولارات التي حصدها بنحو مشبوه، فجمع مكتب التحقيقات الفدرالي «FBI» معلوماته من مُخبره وانتظر الوقت المناسب لتوجيه ضربته.

تحرّك الأميركيون ميدانياً بعدما فشل الإنكليز إعلامياً


وفي موازاة هذا العمل، كان من المهم الدفع بحليفٍ استراتيجي مقرّب من الثنائية الأميركية - الإنكليزية، فوقع الاختيار على الاردني الامير علي بن الحسين، فيما لا يستبعد أن يكون وجود المرشحين الآخرين الهولندي مايكل فان براغ والبرتغالي لويس فيغو مجرد تمويه، والدليل أن الرجلين انسحبا في اليوم عينه، رافعين راية الأمير ومعلنين دعمهما المطلق له، رغم أنه وبلاده لا يملكان تاريخاً مجيداً في عالم الكرة، حيث لم تتأهل المملكة الهاشمية حتى لمرةٍ واحدة الى المونديال او فازت بكأس آسيا على الاقل.
اذاً، عناصر الانقلاب كانت حاضرة ومخططاً لها بدراية لإطاحة «الديكتاتور» السويسري جوزف بلاتر، في عملية ثأرية بحتة، ولمَ لا في الطريق ضرب الروس بما تيسّر؟ وما انغماس الـ«FBI» في العملية الأمنية التي حصلت سوى دليلٍ قاطع على الدور الأميركي الذي لم يكن خفيّاً على أحد مع طلب الأميركيين محاكمة المتهمين في الولايات المتحدة. والـ«FBI» كان اصلاً ممتعضاً من بلاتر تجاهل نشر تفاصيل محققه مايكل غارسيا حول مزاعم الفساد في ملفي روسيا وقطر.
ومع عدم وصول الإنكليز إلى نتيجة في حملاتهم الإعلانية الكبيرة ضد خيارات «الفيفا» في ما خصّ المونديالين، حُدِّدت الساعة الصفر، التي كان اختيار موقعها ضربة مخابراتية ذكية، على اعتبار أنه لم يجرِ اعتقال المتهمين في أي مكانٍ آخر، بل في سويسرا، أي في بلاد بلاتر لإثارة الرأي العام ضده حتى في بلاده، إضافةً إلى أن توقيت أحداث الانفجار الكبير قبل 48 ساعة على الانتخابات هو عملٌ مثالي لأنه لم يعطِ أي مجال لبلاتر من أجل لملمة الوضع وإعادة ترتيب أوراقه وترميم ما تهدّم، وما حصل من انشقاقات. وما يعزّز المخطط المرسوم خروج دولٍ مقرّبة من المملكة العظمى والولايات المتحدة لدعم الأمير علي علناً، أمثال دول الكومنوولث «الشقيقة» بالنسبة إليهما.
من هنا، كانت روسيا وعبر رئيسها فلاديمير بوتين أول من حكى الأمور كما هي وسط صمتٍ مطبق من الجميع حول أهداف العملية الأميركية: «الأميركيون لا يريدون بلاتر رئيساً»، داعياً إياهم إلى وقف العمل على محاولة تحقيق العدالة خارج حدودهم، في عبارة أصبحت كلاسيكية في كل معارك حربهما الباردة البعيدة كل البعد عن الرياضة.
فعلاً أدرك مناهضو بلاتر منذ البداية أن تطيير رئيسٍ تحكّم بمملكة الكرة حتى قبل ولاياته الأربع، يحتاج إلى عمليات استثنائية تتمثل بالإغارة عليه وعلى دولته وخنقه فجائياً في مقرٍ تبلغ قيمته 225 مليون دولار، ويحوي مبلغاً صافياً من الاحتياط يقدّر بـ 2 مليار دولار.




الأمير علي حليف الأميركيين

لطالما ركّز الأمير علي بن الحسين عمله في كرة القدم، ووسّع شبكة علاقاته منذ انتخابه نائباً لرئيس «الفيفا» عن قارة آسيا في كانون الثاني عام 2011، حتى وقوفه مرشحاً لانتخابات الرئاسة المقررة اليوم.
ويجد مؤيدو الأمير علي خارج آسيا فيه شبهاً منهم، بحيث إنه نصف بريطاني من ناحية والدته الملكة علياء، وهي الزوجة الثالثة للملك حسين بن طلال. وبات أكيداً أن الأمير علي هو حليف الأميركيين، ويؤكد هذا الكلام ما كشفه الشيخ الكويتي أحمد الفهد، العضو المنتخب حديثاً في «الفيفا» عمّا قاله له الأمير علي في تشرين الثاني: «قال لي الأمير علي على هامش جوائز الاتحاد الآسيوي في الفيليبين إن هناك حدثاً سيجري قبل انتخابات الفيفا من قبل الـ«FBI»، لكنني لم آخذ الأمر على محمل الجد».