1
«بلدنا أحلى بلد في العالم». كثيراً ما تكرّرت هذه الجملة على مسامعنا من الأمّهات والجدّات. ربما قالها بعض الآباء والأجداد أيضاً، غير أنني ــ في السنوات الأخيرة تحديداً ــ أميل إلى تذكّرها دائماً بأصواتهنّ، فحكاياتهنّ عادة ما تفيض جمالاً، حتى حين يرد فيها الموت. أعني: هنّ قادرات على تجميل الموت.
2

هن قادرات على تجميل الموت فعلاً. و«بلدنا أحلى بلد»، كرّرتها قبل يومين، وأنا أعزّي هشام، ابن السادسة عشرة، عقب استشهاد صديقه. آلاف ممن هم أصغر بسنوات وسنوات من هشام، تلقوا العزاء أيضاً على امتداد سنوات بأصدقائهم. أتحدث عن أصدقائهم تحديداً، لأنّني لا أتذكر أنه كان «طبيعياً» حين كنا في أعمارهم، أن يُفجع واحدنا بوفاة صديق. الشائع، كان موت الأجداد، والجدات. وفي حالات أقل بكثير، الآباء أو الأمهات (وكنا نستغربُ أنهم ماتوا صغاراً).
3

«بلدنا أحلى بلد...»، أكررها بيني وبين نفسي، متذكراً الأسباب «الوجيهة» التي كان بعض «الكبار» يردّدونها. «بيكفي إنك بتفتح الحنفيّة وبتشرب مي». حقّاً؟ يا للمعجزة! كنت قد تذكرت هذا تحديداً، بينما يسألني نادلٌ في أحد مطاعم الهند (إحدى أشد الدول معاناة من تلوّث مياه الأنهار)، هل أريد الماء الذي طلبته معدنيّاً، أم من مياه الصنبور. قوّيت قلبي، وشربت من صنابير الهند أياماً وأياماً. «تعليم مجاني، وطبابة مجانيّة»، وكان البعض يزيد: «نحن الدولة الوحيدة»، ونهزّ رؤوسنا. قبل أن نكبر ونكتشف أنّها كانت أسطورة، وأن دولَ مجانيّة التعليم والطبابة منتشرة في أرجاء المعمورة، لأ... وفوق ذلك تحوي كثيراً من «الامتيازات»، أبسطها منظومات مواصلات عامة تحترم المواطن! (طبعاً، نحن بمرور الزمن تلبرلنا، وتناقصت امتيازات مجانيّة التعليم والطبابة، حتى كادت تضمحلّ).
4

«بلدنا أحلى...»، ويهلّل البعض لتصنيف عاصمتنا من بين أرخص المدن تكلفة للمعيشة في العالم. أتذكر ذلك، وأحاول حلّ المعادلة الصعبة، إذ خرجت لتوّي من «ميني ماركت» يقع في قلب طوكيو، المصنّفة بين أكثر مدن العالم غلاء، ومعي كيسٌ مملوءٌ بالسلع الغذائيّة، كلّفني شراؤها ثمناً أقلّ مما يكلّفني شراء كيس مماثل من محل في حي الأميركان في اللاذقيّة! مع تكرار الأمر في مدن شتّى، خرجت باستنتاج بديهي، مفاده أن «اللقمة تظلّ خطّاً أحمر، مهما تغوّلت الرأسماليّة»، طبعاً هذا لا ينطبق على بلدنا، «أحلى بلد في العالم».
5

حين عثر أهل القرية على جثة الرجل الغريق، لاحظوا ــ تدريجياً ــ أنه أطول من كل القامات، وأثقل وزناً، وأجمل وجهاً من كل الرجال، وأنه «أكبر المساكين على وجه الأرض». وحرصت النسوة على حياكة ثوب مناسب لجثة الرجل الغريق. لم يحصل ذلك في نور سلطان، أو غيرها من المدن التي نعرفها، بل في قرية لم يكن لها اسم، حكت عنها قصة «أجمل رجل غريق في العالم»، لماركيز.
6

«يا حكومتنا الرّشيدة، صفينا ع الحديدة». ترنّ في الأيام الأخيرة هذه العبارة في بالي كثيراً. وهي، حسبما أذكر، كانت «مانشيتاً» لمطبوعة سوريّة في العقد الماضي. لا أتذكر اسم المطبوعة فعلاً، حاولت البحث، فلم أهتدِ. الواضح، أن النداء لقي آذاناً صاغية لدى الحكومة المقصودة، وكل الحكومات التي تلتها. ولا بدّ من أن صاحب العبارة يوافقني اليوم، على أن الحال تغيّر، وأن نهضة ملموسة قد حصلت. أقول هذا بثقة، ولا أخشى أن يفهمني أحد خطأ، ويظن المقصود نهضة في «أحلى بلد». ما حصل ببساطة، أنّ الحديدة نهضت، وصارت شاقوليّة، ومدبّبة.
7

نعم، بلدنا أجمل بلد ــ غريق ــ في العالم.