يقول المثل الشعبي: «شو بدنا نتذكر منك يا سفرجل؟ كل عضّة بغصّة». يبدو هذا المثل اليوم، أبلغ تكثيف للأثر الذي يتركه أداء «الفريق الاقتصادي» على السوريين. المفارقة، أنّنا اعتدنا أخيراً ترافق الأداء المتعثّر مع تصريحات لا تكتفي بإنكار الواقع، بل تبالغ أيضاً في استغباء الجمهور. خذوا مثلاً أحدث تعليقات «البنك المركزي» على تحليق الدولار عالياً. «ارتفاع الدولار وهمي»! يقول الحاكم. «ارتفاع الدولار وهمي»؟ هل انتبه «الحاكم» الموقّر مثلاً، إلى أنّ الحكومة رفعت سعر البنزين تأسيساً على «الارتفاع الوهمي» المزعوم؟ وأنّ سلعاً كثيرة قد استعارت «أجنحة الدولار» وبدأت في الارتفاع مقتدية به؟ هل هناك ما يدعم نظرية «الارتفاع الوهمي»، سوى إصرار «المركزي» على تسليم الحوالات الخارجيّة لأصحابها بسعر يقل عن سعر السوق 160 ليرة للدولار الواحد، مع مواصلته «تمويل المستوردات» بالسعر نفسه؟ يعتمد كثير من السوريين على الحوالات القادمة إليهم من أقاربهم في الخارج، لترميم عجزهم المالي الهائل. وهم يتسلّمون حوالاتهم بالليرة السورية وبالسعر الرسمي، ليخسروا فوراً ربع قيمتها! ثم يذهبون لشراء سلع يتمّ تحديد ثمنها وفق سعر «السوق السوداء»، برغم أن بعض مستورديها يكونون قد اشتروا الدولار من «المركزي» بالسعر الرسمي المنخفض! أي دوامة هذه؟ أين الوهم وأين الحقيقة فيها؟ هل من حقيقة سوى ابتلاع السوريين السكين على الحدّين؟يُستخدم «الدولار الأسود» لتغطية «اقتصاديات الظل» بأنشطتها المترامية، وهي أنشطة تجاوزت التعريف التقليدي لها (من تهرّب ضريبي إلى تجارة مخدّرات وأسلحة)، لتصل إلى استيراد البضائع من دون إجازات، لتلبية حاجات السوق، وهذا ما نسمّيه بالعامية «تهريب». «اقتصاد الظل» متمدّد أكثر مما كنا نتخيّله، ووفقاً لأحدث قياساته كان متوسط انتشاره عربياً في مطلع العام الماضي 34%، ولا شكّ في أن النسبة ارتفعت. اليوم، يبدو أن معظم البضائع الرئيسية في سوريا مصدرها «الظل»، بل إن بعض كُبرى شركات البلاد هي «شركات ظل»، ما يساعد على تمدد «اقتصاد الظل» اطّراداً. ويبدو أنه سيغدو قريباً مساوياً لحجم «الاقتصاد الرسمي». أي أننا فعلياً نتّجه إلى عملتين في بلد واحد؛ «ليرة الحكومة» تختلف عن «ليرة الظل»، وتقلّ عنها قوة شرائية. إذاً، «ليرة الحكومة» تختلف حكماً عن «ليرة المواطن»، الذي يقبض بالأولى (الأقل قيمة). ويدفع بالثانية أثمان معظم المنتجات، والخدمات الطبية، والتعليمية، وأجور النقل.. إلخ. ولن يكون غريباً (بل هو مرجّح) أن نجد أنفسنا قريباً مع ارتفاع لثمن الخبز، بما يتماشى مع «ليرة الظل». هذا ما «تبشّر» به حرائق القمح، مع الفاقد الذي سيتمّ تعويضه حتماً عبر الاستيراد. المزيد والمزيد من الاستيراد لكلّ شيء كنا ننتجه ذاتياً. هكذا تبدأ الكارثة الأكبر لأيّ اقتصاد، نقص في الناتج المحلي، فتهاوٍ لقيمة العملة وتقصير في حمايتها، ثم استيراد بأسعار باهظة، وصولاً إلى معدلات تضخم هائلة. ما الذي يمكن فعله اليوم؟ المطلوب أولاً التعاطي مع «الشفافية» بوصفها سلوكاً حكوميّاً، لا مجرّد شعارات وتصريحات، تمهيداً للاعتراف بواقع الحال. هل هناك عجز عن «محاربة اقتصاد الظل»؟ ربما وجدنا الجواب في نتيجة «حملة مكافحة التهريب»، التي لم نحصد منها سوى ارتفاع السلع. طيب، إذا كان العجز واقعاً، وليست هناك نية لدعم الإنتاج المحلي (أو قدرة في أفضل الأحوال)، فلنعترف بذلك، ولنعمل على قوننة تكتل «الظل» الضخم، وتحميل حيتانه بعضاً من المسؤولية، مع العلم أن مئات العقود التجارية الحكومية تبرَم مع هؤلاء! هل يدرك القائمون على الاقتصاد أن «الجباية الضريبية» إذا ما نجت من الفساد، ستكون كفيلة وحدها بسدّ كثير من فجوات العجز؟ وستحفظ «الأمن الاقتصادي» أكثر من «حملات المكافحة» الاستعراضية؟ وأنها، بالتأكيد ستعود بنتائج تأثيرها أقوى من أيّ دجاج أو بيض أو أعلاف تُوزع على بعض الشرائح؟ أم أننا نحتاج إلى معجزات كي نفهم أن الجوع الأخطر الذي تعيشه سوريا، هو الجوع إلى «الأمان الاقتصادي»؟ ثم، هل يشرح لنا أحد ما هي الخطط المعدّة للأيام السوداء القادمة؟ وهل من خطط أصلاً، سوى انتظار انفجار أسعار السلع، وفعل اللاشيء؟