لا تعتبر جريمة رمي أطفالٍ حديثي الولادة على قارعة الطريق أمراً طارئاً على المجتمع الإنساني عموماً. يُرتكب هذا النوع من الجرائم في كثير من المجتمعات، لأسباب ودوافع عدّة. لكنّ ازدياده في سوريا في الآونة الأخيرة يفتح الباب أمام سلوك بدأ يأخذ شكل ظاهرة، لا بد من الوقوف عندها، وخصوصاً أن هذه الجرائم ارتكبت في مختلف المناطق، سواء في ذلك الخارجة عن سيطرة الحكومة، أو الواقعة تحت سيطرتها.قرب حاوية قمامة في منطقة «السيدة زينب» بدمشق، يتردد صوتٌ متقطّع لطفل حديث الولادة يحاول التشبث بالحياة بعدما حكم عليه ذووه، أو أحدهم، بالنفي. لم يستطع من عثر على الطفل إنقاذه، ففارق الحياة، تاركاً وراءه حكاية جريمة غامضة ارتكبت عن سابق إصرار، في مجتمع زلزلت الحرب بنيته، وعاثت فساداً في منظومته الأخلاقية. ليكون هو وأمثاله، وهم كثر، ضحايا لا يعرفون من أجرم بحقهم، أو لماذا ارتكب الجريمة. رحل ذلك الطفل عن الحياة، فيما نجا آخرون سيحملون معهم وصمة «لقطاء» طوال حياتهم التي لم يختاروها.
وتكررت في الشهور الأخيرة حالات مشابهة في مناطق جغرافية مختلفة. في حي «باب توما» الدمشقي التاريخي، عثر الأهالي على طفلة مرمية أمام باب جامع «الثقفي». كما شهدت حماة ومناطق من ريف حلب الشمالي حوادث عدة مشابهة. وفي إدلب، أحصى ناشطون ست حالات خلال أقل من شهرين، في العام الحالي. وفيما تغيب الإحصاءات الرسمية لعدد الحالات التي شهدتها البلاد فعلياً، تؤكد «الطبابة الشرعية» أن نسبة هذا النوع من الجرائم ارتفعت فعلاً خلال الحرب. يؤكد «المدير العام لهيئة الطب الشرعي في سوريا» زاهر حجو أن «مديريات الطبابة الشرعية باتت تسجل حالة كل نحو أسبوع أو عشرة أيام». يوضح حجو لـ«الأخبار» أن «النسبة مرتفعة بنحو 15 أو 20 بالمئة قياساً بفترة ما قبل الحرب»، ويضيف «لكن هذه النسبة لا يمكن اعتبارها كبيرة إلى حد يدفعنا إلى الحديث عن ظاهرة. لا توجد محافظة أو مدينة بعينها تتكرر فيها هذه الحالات، هذا الأمر يقع في كل المحافظات تقريباً». بدوره، يؤكد «القاضي الشرعي الأول في دمشق» محمود معراوي أن عدد «اللقطاء» ارتفع فعلاً خلال الحرب، من دون وجود أرقام دقيقة في الوقت الحالي. ويقول معرّاوي لـ«الأخبار» إن آخر إحصاء اطلع عليه «كان قبل نحو عام ونصف عام، وبلغ عدد اللقطاء حينها نحو 250 حالة».

البحث عن «الجناة»
عند العثور على طفل متروك، يتم اتخاذ جملة إجراءات، على رأسها نقل الطفل إلى مستشفى، ويُجري الطبيب الشرعي فحصاً له بغية تحديد حالته الصحية. فيما تفتح الشرطة تحقيقاً في الحادثة، محاولةً معرفة ذوي الطفل، قبل أن يتم البحث في مصيره في حال تعذر معرفة أبويه.
يُخشى تحوّل هذه السلوكيات إلى «ظاهرة» في حال تكرارها بشكل كبير

ويجيز القانون السوري لمن عثر على طفل مرمي في الشارع تربيته والاعتناء به إن رغب في ذلك، وفق شروط محددة، أبرزها وجود امرأة قادرة على العناية به، ويحظر القانون إيكال الطفل إلى رجل يعيش بمفرده. ويتم تسجيل الطفل ضمن خانة خاصة في السجلات المدنية، بموافقة القاضي الشرعي، بسرية تامة، وبشكل لا يتيح معرفة أن هذا الطفل لقيط مستقبلاً. كما تسميته، إضافة إلى منح اسمين افتراضيين لأمه وأبيه، وجعلهما متوفَّين. ثم يُسلّم إلى من يريد تربيته وفق «عقد وصاية»، أو تحويله إلى إحدى دور الرعاية. وبرغم وجود حالات عدة لأطفال حديثي الولادة يتم التخلص منهم، فإن عدد الحالات التي يُهتدى فيها إلى الأبوين عادة ما تكون محدودة. في هذا السياق، يشرح «المدير العام لهيئة الطب الشرعي» زاهر حجو أنه «لا توجد في سوريا خريطة للحمض النووي، ما يعني تعذّر أخذ عيّنة من الطفل ومقارنتها بعينات موجودة أصلاً لمعرفة أبويه، الأمر الذي يترك مسألة معرفة أبوي الطفل لتحريات الشرطة، والأدلة التي قد تعثر عليها». ويعاقب القانون السوري من يحاول التخلص من ابنه بالسجن لمدة قد تصل إلى 15 عاماً، وفق أحكام المادة 485 من قانون العقوبات الذي يطلق على هذا النوع من الجرائم «تسييب الأطفال». ويخفف القانون الحكم عن أم الطفل إذا أقدمت على ذلك «مكرهة أو لصون شرفها».

الفقر... وأسباب أخرى
تمكنت الشرطة من الوصول إلى والِدَي «طفلة باب توما»، التي عُثر عليها الشهر الماضي. وبيّنت التحقيقات أن الطفلة وُلدت في أحد المستشفيات، وكانت تحتاج إلى وضعها في الحاضنة. وعمد الأب الى إخراج الطفلة من المستشفى على مسؤوليته، ثمّ وضعها أمام باب الجامع. وخلال التحقيق مع الأب، ذكر أنه قام بذلك بسبب «سوء حالته المادية وعدم قدرته على تأمين علاج وطعام لها». وضجت وسائل الإعلام التي تناقلت خبر الطفلة باعترافات الأب، إلى درجة وصلت إلى حدّ اعتبار الأوضاع المادية سبباً مباشراً لقيام البعض بالتخلص من أبنائهم، وهو أمر ترفضه الدكتورة هناء برقاوي، الاختصاصية في علم «الاجتماع الجنائي». وترى برقاوي أن الفقر «قد يكون أحد العوامل، لكن هناك عوامل أخرى لا يمكن تحديدها بدقة، من ببينها انهيار المنظومة الأخلاقية في بعض المناطق، أو أسباب شخصية لا يمكن تعميمها». تشرح برقاوي أن هذا النوع من الجرائم «تمكن دراسة نتائجه فقط، وتتعذّر دراسة أسبابه بدقة، في ظل عدم القدرة على معرفة مرتكبيه، ودراسة سلوكهم ودوافعهم». وتقول «كل ما يمكننا فعله هو معرفة مصير الأطفال، ومراقبتهم. أما الأهل فتصعب معرفة دوافعهم، وبالتالي لا يمكن البناء على حالة واحدة فقط لأب قال إن الفقر هو السبب». كذلك، ترفض برقاوي إطلاق تسمية «ظاهرة» على هذه السلوكيات، لأن «اعتبار الأمر ظاهرة يحتاج إلى تكرار واضح، وارتفاع في المؤشرات. ليس لدينا أرقام دقيقة عن الحالات التي شهدتها سوريا قبل الحرب، لنجري مقارنةً معها». تقول «لكن ذلك لا ينفي أن الحرب وآثارها المجتمعية والنفسية ساهمت في ارتفاع عدد الحالات»، وتضيف «خلال دراسات سابقة، لاحظت أن النسبة الأكبر لهذا النوع من الحالات تعود إلى حالات سفاح. من وجهة نظري، ليس هناك أب عاقل يقوم برمي ابنه في الشارع حتى لو كان معدماً مادياً».