منذ غادر قيادة الجيش عام 1984 اختار حياة خاصة بعيداً من الضجيج في منزله في الكفور، متنقلاً بينه وبين معمل باطون أنشأه قبل سنوات في نهر ابرهيم. لم تكسر عزلته سوى حملة استهدفته عام 1992، في عزّ الحقبة السورية بعد اتفاق الطائف، طاولت أساساً الرئيس أمين الجميّل واتهامه بصفقة طوافات «بوما» فرنسية قيل إن عمولة غير قانونية ترتبت عليها. طوال سنتين تولت لجنة تحقيق نيابية برئاسة نائب رئيس المجلس إيلي الفرزلي التحقيق في وثائق الصفقة وملفاتها بغية تجريم الجميّل وطنوس. برأت اللجنة القائد السابق للجيش، وقالت إن لا أدلة لديها على تورّط فيها الرئيس الأسبق. لم يكن طنوس المقصود، بل منع الجميل من العودة إلى بيروت بافتعال ملاحقة قضائية. كان الرجل أقوى رموز عهده، وأصلبهم. في ما يأتي أجزاء من كتاب قيد الإعداد عن حقبة كان العماد الراحل أحد شهودها ولاعباً رئيسياً فيها، يروي بعض ما خبره عنها
قائد مختلف

كان ابرهيم طنوس أول قائد مقاتل للجيش بين أسلافه، سرعان ما طبع القيادة بطابعه. منع عن الضبّاط السيارات الفاخرة وألزمهم ركوب الجيبات على غرار ما كان يفعل هو عند تفقده قطع الجيش وثكنه ومراكزه. يصعد في الجيب ببزّة الميدان رابطاً رشاشه إلى كتفه. ألغى نوادي التسلية للضبّاط واستعاض عنها بملاعب رياضية لفرض اللياقة الجسدية. عرفه الضبّاط القريبون منه بقدرته على اتخاذ قرارات حاسمة وخطرة لا تخلو من المجازفة. يذهب في خياراته أحياناً إلى أبعد من قدراته على المضي في المواجهة. مسيّس إلا أن تنشئته العسكرية توجّه خطواته (...)
عندما قرّر تعيين قادة المناطق العسكرية اصطدم بمشكلة تعيينهم بمرسوم يتخذ في مجلس الوزراء. كان عليه الأخذ في الحسبان تعيين قادة ثلاثة مناطق عسكرية تقع في ثلاث محافظات خارجة عن سيطرة السلطة المركزية لرئيس الجمهورية، هي الشمال والجنوب والبقاع، وتحتّم مراعاة واقع مغاير هو وجودها تحت سيطرة الجيش السوري والمنظمات الفلسطينية في الشمال والبقاعين الأوسط والشمالي، والجيش الإسرائيلي في البقاع الغربي وجبل لبنان الجنوبي والجنوب برمته، ناهيك باحتفاظ الأحزاب بميليشياتها فيها. قيّد هذا الواقع قدرة الجيش على التحرّك، فأمسى أحد القوى المسلحة وليس أقواها، كما كانت حاله في بيروت الغربية وضاحيتها الجنوبية. كان على القائد، كذلك، الأخذ في الإعتبار موافقة زعماء سياسيين في هذه المحافظات على مواصفات ضبّاط تلائمهم مذهبياً وسياسياً وأمنياً بغية تمكينهم من الإضطلاع بمهماتهم. قيل لقائد الجيش إن الحلّ في الشام. حادَثَ رئيس الجمهورية في المشكلة فاقترح عليه معالجتها في دمشق ما دامت عسكرية الطابع.
ذهب إلى العاصمة السورية في كانون الثاني 1983، بعدما طلب موعداً من عبدالحليم خدّام وحكمت الشهابي عبر جان عبيد الذي رافقه. قبل مغادرته أخطر مسؤولاً في الفريق العسكري الأميركي بالزيارة ودوافعها، وهي طلب مساعدة سوريا على تخطي عقبات كانت تحول دون تعيينه بعض معاونيه. فأصرّ المسؤول الأميركي على الاجتماع به قبل ذهابه.
الخامسة فجر اليوم التالي زاره المسؤول الأميركي في منزله، وسأله: بمَن ستجتمع في دمشق؟
ردّ: عبدالحليم خدّام وحكمت الشهابي.
قال: لا تتكلم أمام الإثنين في وقت واحد. تحدّث مع كل منهما على انفراد انتحِ بعبدالحليم خدّام وقل له إن ابنه رسب في الجامعة في الولايات المتحدة، ونحن عالجنا المشكلة، وأبلغه أننا كلّفناك إبلاغه ذلك. ثم انتحِ بحكمت الشهابي وقل له إن فحوصه الطبية في المستشفى في الولايات المتحدة مطمئنة.
وهكذا فعل.
في دمشق قال له خدّام إنه سيتجاوب مع مسعاه، لكنه طلب منه طرح الموضوع إلى مائدة الغداء. انضم إليهما الشهابي في مكتب وزير الخارجية. انتحى بالوزير وأبلغه الرسالة الأميركية المقترنة برغبة تسهيل مهمته، وكذلك برئيس الأركان السوري. في الغداء، في نادي الشرق في حضور جان عبيد، استجيب طلبه بتحريره من قيود المرسوم والشروط المتناقضة لتعيين قادة المناطق العسكرية التي أصرّ عليها زعماء سياسيون حلفاء لسوريا. أبدى ابرهيم طنّوس في المقابل استعداده للمعاملة بالمثل، وتلبية أي طلب يرغبان فيه. بعد أيام خابره رئيس الحكومة شفيق الوزّان، وحضّه على توقيع تشكيلات قادة المناطق العسكرية.
كانت تلك الزيارة الأولى، والوحيدة، لابرهيم طنّوس الى دمشق، واللقاء الأول والوحيد بخدّام والشهابي. فالرجل لم يسبق أن عرف مسؤولين أو ضبّاطاً سوريين سوى المقدّم توفيق جلّول، قائد اللواء 81 الذي دخل لبنان عام 1976، إبّان وجود طنّوس على رأس قوة الجيش اللبناني في زحلة. وعلى مرّ قيادته الجيش لم يستقبل ضابط استخبارات سورياً.

الجسر القديم

قصد رئيس الجمهورية منتصف ليل 31 كانون الثاني 1983 وأطلعه على خطته لقطع طريق الكرامة من تلة الرادار وسوق الغرب، الأمر الذي يمكّن الجيش من ربط سوق الغرب بالشحّار الغربي حيث تنتشر وحداته. أبلغ إليه تفاصيل الخطة وجهوز اللواءين الخامس والعاشر والكتيبة الثالثة المجوقلة من فوج المغاوير لمباشرة تنفيذها في أقل من ساعة ما أن يأمر الرئيس الجيش تنفيذ المهمة. فوجىء الرئيس بالخطة، وتريّث في تأييدها، واقترح إطلاع الموفد الأميركي الخاص دونالد رامسفيلد عليها. أبلغ طنوس ان البلاد مقبلة على مرحلة جديدة بعد انعقاد مؤتمر جنيف للحوار الوطني في سويسرا في تشرين الأول، وتوقعه تأليف حكومة جديدة تنضم إليها المعارضة. ومن المستحسن استشارة رامسفيلد .
للفور استدعي الموفد الأميركي الخاص، الذي اعتاد المبيت في منزل السفير الأميركي في اليرزة، إلى قصر بعبدا. بعدما أطلعه قائد الجيش على الخطة ومبرّراتها الضرورية لمنع ربط بيروت وضاحيتها الجنوبية بالجبل وإقفال منفذ حيوي لتهريب السلاح، قال رامسفيلد: لا يمكنك القيام بعمل عسكري كهذا قبل مراجعة إسرائيل. سأله طنّوس عن الدافع، فردّ: «ربما لا ترغب في حصولها. لا تنس أنها لا تزال تنتشر في الدامور. وأخشى أن يؤدي عدم إطلاعنا إياها على الخطة الى أن يهاجم الجيش الإسرائيلي جيشك وتقع المصيبة. أنا هنا، في لبنان، لتفادي مهاجمة الجيش اللبناني».
أضاف رامسفيلد: هل أطلعت الجنرال ستاينر على الخطة؟
ردّ: لا.
سأل: لماذا؟
قال طنّوس: لأن هذا شأني وشأن جيشي.
عقّب رامسفيلد: هل يمكنك إطلاع الجنرال ستاينر على الخطة وتفاصيل تنفيذها. يقتضي أن أذهب إلى إسرائيل صباح غد لإعلامها بها، وسيتولى الجنرال مرافقتي لشرحها للمسؤولين الإسرائيليين. وطلب مهلة 48 ساعة لتنفيذ مهمته هذه في الدولة العبرية. وقبل انصرافه قال له قائد الجيش: ينبغي أن أقول لك، وأن تعرف في حال أطلعتَ إسرائيل عليها، هو أنها لن توافق عليها، ولا سوريا ستوافق كذلك.
قال الموفد الأميركي الخاص: وما شأن سوريا بها؟ نحن ضدّها.
ردّ: سترى لاحقاً. أنتم لم تعودوا معنا كما من قبل ضدّ سوريا.
بعد ساعات، في أول شباط، أطلع طنّوس الجنرال ستاينر على الخطة، إلا أنه أدخل عليها تعديلات صغيرة توخّت تضليل تفاصيلها، بأن أبدل اللواءين الخامس والعاشر وكتيبة المغاوير المكلفة مهاجمة طريق الكرامة باللواءين السابع والحادي عشر.
قبيل عودة رامسفيلد من إسرائيل، بعد ظهر 2 شباط، أبلغ الفرع الفني قائد الجيش أن إذاعة دمشق، في نشرتها الإخبارية، كشفت تفاصيل خطة الجيش لإقفال طريق الكرامة، بما فيها التعديلات المضلّلة. أعطى افتضاح الخطة ضوءاً أخضر لتصعيد عسكري يومذاك طاول مواقع الجيش في بيروت والجبل والضاحية الجنوبية بقصف مدفعي وصاروخي، طاول أحياء سكنية في الضاحية الشرقية لبيروت وقرى في أقضية بعبدا والمتن وكسروان.
حمل رامسفيلد إلى رئيس الجمهورية وقائد الجيش في اجتماع في قصر بعبدا جواباً سلبياً : إسرائيل غير راضية عن الخطة، وترى ان استخدام ثلاثة ألوية قرار مبالغ فيه لخطة كهذه. وهي تقترح الإكتفاء بكتيبة مؤللة واحدة من اللواء الرابع (في الشحّار الغربي). في المقابل تضع إسرائيل كتيبة دبابات في مكان قريب من تنفيذ العملية لاستخدامها عند الضرورة.
ردّ طنّوس: لديّ دبابات أستخدمها من دون حاجتي إلى إسرائيل.
قال: لا. هم يفضّلون ذلك، ومستعدون لاستعمال الطيران لقصف بعض الأهداف، فتقطعون الطريق في ربع ساعة.
وخلافاً لرئيس الجمهورية الذي لم يشأ المجازفة بعمل عسكري، هزّ قائد الجيش رأسه بالإيجاب قائلاً لرامسفيلد: أنا موافق شرط أن تقنع أنتَ إسرائيل بتقديم دليل على حسن نيّتها في مساعدتي وأنها تدعم السلطة اللبنانية ولا تتواطأ أو تكذب عليها. حينما كان الجيش الإسرائيلي في بيروت منع انتشار الجيش فيها وفي عاليه والجبل لدى انسحابه، وعمل ضدّنا مئة في المئة، وهدّدت طائراته بقصف الجيش إذا دخل خلدة قبل انسحاب آخر جندي إسرائيلي منها. فعل ذلك في أكثر من منطقة، فحال دون انتشار الجيش. أضاف: كانت إسرائيل مع سوريا قلباً، ومكّنت وليد جنبلاط والميليشيات من ملء الشغور الذي كان يتركه الجيش الإسرائيلي قبل إخلائه مراكزه، ومنحتهم الوقت الكافي لاحتلال تلك المراكز، فلم يتسنّ للجيش الحلول محله. وأضاف: مغزى ذلك أن إسرائيل كانت معهم لا معنا. هل غيّرت الآن سياستها؟ لا أعرف، ولا لدي عندي. لتقدّم لي هذا الدليل إذا كانت جادة فعلاً، وهو قصف طريق الكرامة أو مساعدتي على إقفالها.
سأله رامسفيلد: كيف؟
قال قائد الجيش: لترسل إسرائيل طائرتين لقصف جسر الغيضة، وهو جسر صغير .
ردّ: حسناً. يقصفونه.
قال: ليقصفوه فأحصل على إثبات حسن نيّة على جدّية رغبتهم في مساعدتنا ضدّ سوريا.
سأل الموفد الأميركي الخاص مجدّداً: وإلام يرمي تدمير الجسر؟
قال طنّوس: يقطع التواصل بين الجبل والضاحية الجنوبية وبيروت ويغني عن عمليتي العسكرية. هذا ما كنت أتوخاه من قطع طريق الكرامة. لكن المهم هو فحوى الرسالة التي سيحملها قصف الجسر. ستقول إسرائيل لسوريا إنها تدعم الحكومة اللبنانية وسيادتها على أراضيها وترفض إضعافها لمصلحة سوريا. هذا هو الدليل السياسي الرئيسي المطلوب.
عقّب رامسفيلد: أرسل ظهر غد مَن يراقب تدمير الجسر.
ظهر اليوم التالي، 3 شباط، من موقع للجيش في سوق الغرب، أمكن مراقبة طائرتين إسرائيليتين حلقتا فوق المرتفعات ثم أطلقتا صاروخين في مسافة بعيدة من جسر الغيضة الذي لم يُصب بضرر. على الأثر تلقى طنّوس مكالمة هاتفية من رامسفيلد يسأله رأيه في تنفيذ التعهّد الذي قطعه له، فردّ: صحيح أن الطائرتين قصفتا. لكنهما لم تصيبا الجسر.
قال رامسفيلد: قالوا لي إن الجسر صغير، ويصعب التصويب عليه.
ردّ طنوس: لم تعطنا إسرائيل الدليل الذي طلبناه، وهو بسيط للغاية. ذلك يعني أنها ليست معنا ولا تريد مساعدتنا. نحن لا نثق بها، وأؤكد لك أنها لا تزال مع سوريا ضدّنا. أنتم تلعبون معنا لعبة مزدوجة.




سوريا لم ترده قائداً للجيش

أرسل مدير المخابرات سيمون قسيس إلى ابرهيم طنوس في 27 نيسان 1984 بريداً سرّياً برقم 2 / س خ سرّي للغاية، ضمّنه معلومات نسبت إلى عبدالحليم خدام في حديث خاص مع مسؤولي منظمة حزب البعث في لبنان، أكّد فيه إصرار القيادة السورية على وجوب حلّ القضية اللبنانية انطلاقاً من بندين أساسيين: تأليف حكومة اتحاد وطني برئاسة رشيد كرامي، وإنشاء لجنة قيادية لإعادة بناء الجيش اللبناني على أسس جديدة.
في رسالة قسيس أن حافظ الأسد أبلغ إلى أمين الجميّل في قمتهما الأخيرة في دمشق «وجوب إبعاد العماد ابراهيم طنوس عن قيادة الجيش بسبب سياسته التي أدت إلى فرز الجيش». وتبعاً للوثيقة ناقض الأسد اقتناع الرئيس اللبناني بتحميل وليد جنبلاط ونبيه برّي مسؤولية هذا الفرز، ورفضه إنشاء اللجنة القيادية التي تعني إعادة الجيش إلى الثكن.
في 23 حزيران 1984 اتخذ مجلس الوزراء، تحت وطأة تهديد سوري، قراراً بإقالة طنوس وتعيين العميد ميشال عون خلفاً له. كان طنوس رفع إلى الجميّل استقالته من منصبه، لكن الرئيس طلب الترّيث في بتّها.
امتعضت سوريا من علاقة وطيدة جمعت طنوس بالضباط الأميركيين الكبار المقيمين في وزارة الدفاع الذين أشرفوا على إعادة بناء الجيش وتسليحه، وكانوا على تواصل دائم ويومي مع القائد الذي اختاروه للجيش وأسرّوا إليه بالكثير من الأسرار (...).