في المرة الأولى داسوا قلوبهم. ولكنهم في الرويس رأوا قمصان الموت على الأرصفة. كان هناك حيوات تتدلى عن الشرفات ورجال يضعون أياديهم على رؤوسهم ويبكون. وهذا في منتهى القسوة. لكن كان هناك جثث بقيت في مكانها. احترقت بهدوء داخل السيارات كأن أصحابها اعتزلوا. من أين يأتون بالقوة؟ القوة لا تخرج من تحت الأنقاض. لديهم شعاراتهم التي جعلت للضاحية صورة العرين، رددوها أمس كما في كل مرة، ولكن هذه المرة بأصوات متحشرجة. لقد تركهم العالم يحاربون عدواً مجهولاً يصطادهم بخبث. عدو لا يعرف وجوههم ولا يعرفون وجهه، ولا أحد يعرف شيئاً عنه إلا أنه موتور سيتشظى ضدّ الأبرياء. أول من أمس، خلعت الضاحية رداء الأحداث الذي حولها إلى «قلعة»، وضعت وشاحاً أسود تختبئ خلفه عيون الضحايا. ليس مطلوباً من أحد أن يحب «حزب الله» أو يؤيده في شيء كي يتألم إذا رأى طفلاً في الثالثة ينتهي. وإن فقدوا بعض إنسانيتهم، وصرفوها في الارتزاق للقتلة، فإن « أهل الضاحية» لم يفعلوا ذلك. أمس كانت لحظة لا بد فيها من إعلان حاسم. الإعلان أنهم ينتمون إلى ضحايا هذا العالم، وأن «القوة» لا تعطّل الألم.
اعترفوا أن داخل كل واحد منهم طفلاً يمكن أن يأتي انتحاري جمع قذارة العالم في عقله، وينثره على الرصيف. والعنف الديني هو نفسه، وإن كان هذا لا يروق كثيرين، لكنها اللحظة الفريدة، الصلفة للغاية، التي يتساوى فيها الضعفاء. والضعفاء هم الموتى والموتى المحتملون. يقول عالما الاجتماع الإيطاليان، إنزو باتشي وسابينو أكوافيفا في كتابهما «علم الاجتماع الديني»، إن التعبير عن العنف المقدس يكون بعدة أشكال. يمكن «حصرها في شكلين محدّدين: تضحية بالآخرين وتضحية بالذات، أي القضاء المبرم على من لا ينتمي إلى التنظيم الديني أو كذلك إماتة من ينتمي إلى التنظيم». في الحالة الأولى نحن أمام مختلف أنواع الأصوليات الدينية العنيفة، التي تقترف العنف لفرض مبدأ ديني بالقوة، تقدّر أنه مهدد من عدو خارجي، وفي الحالة الثانية ندنو من حالة التحمس للاستشهاد الفردي والجماعي، وهو بمثابة شكل لاختبار عمق الإيمان والانتماء. وفي كلتا الحالتين «يرتهن اللجوء إلى العنف، ليس بحوافز ذات طابع إيديولوجي وحسب، متولدة عن رؤية لاهوتية أو دينية مميزة للعالم، بل أيضاً بقاعدة تنظيمية بسيطة، ذلك أن قتل الذات أو الآخرين له وظيفة تمتين اللحمة الداخلية لجماعة الانتماء. فليس اقتراف العنف تجاه الآخرين أو تجاه الذات عملاً عفوياً، بل يتطلب انقلاباً دينياً عميقاً ومكثفاً». وهذا ما يحدث. لكن الضاحية، التي تمثل «الآخرين» للقاتل، ليست كما يعرفها المتفرجون بالضرورة. الضاحية «الأسطوريّة» خائفة، خوف «الآخرين» في علم الاجتماع الديني.
يظن بعض الناس أن الضاحية معقل للوحوش، وأنها دغل من أدغال الشرق. وهذا ليس غريباً في بلاد القتال الأهلي. الواقع أن الناس هناك قادرون على الحياة أكثر من قدرتهم على الموت. لا لشيء إلا لأنهم بشر يذهبون ويجيئون. لم يخرج منهم «انتحاري» واحد ضدّ غيرهم. لم تنف أغلبيتهم أنهم في معقل إيديولوجي. لم يرغبوا في أن يصنع الوقت أسواراً بينهم وبين عين الرمانة وقصقص والشويفات والحدث، وحالما استطاعوا تسلقوا هذه الأسوار وعبروا. أورثوهم الأسوار فتفاهموا معها. وفي يومياتهم، في مقاهيهم الكثيرة، لديهم ما يشغل بالهم غير الحرب والحكومات والتقسيمات الطائفية. لديهم مقاه كثيرة، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على رغبة لاواعية في الاستسلام لحياة أسهل لا لصراع زجّوا فيه. يمكنك أن تراهم ينتظرون مباريات كرة القدم، ويصرخون في المقاهي للاعبين لا يعرفونهم، بوصفهم جماهير للفرح أيضاً. جميعهم مع حزب الله، وفي لحظة يمكن أن يصيروا جميعهم ضدّ الحزب. وينسحب هذا على الحزب نفسه. في الضاحية رئات لا تكفي أهلها، وحزن يحفر في نفوس أصحابها، والقبضات ليست سوى بديل من الاعتراف. صحيح أنهم ينزلون إلى التظاهرات، ويصوّبون القبضات إلى أعدائهم، لكنهم لم يرغبوا في أن يكون لهم أعداء. والحق أن مداخل الضاحية ومخارجها تشهد على طفرة العبور منها وإليها. كانت مكاناً للهاربين في بدايتها، الذين تخلت عنهم الأرياف، وجاءت الحرب لتضعهم وسط الوحل. ولكن الضاحية ليست دغلاً. يعيش الناس هناك في زحمة أليفة وقد تصالحوا على مضض مع قلة السماء. نازعتهم الأسلاك الشائكة على أبصارهم، فعاشوا كالأسلاك، وفي كل موسم يرتفعون إلى الله، يرتفعون بلا أسماء. عيونهم أسماؤهم، وعيونهم تتشابه إذا ركضت الزواريب أمامهم هرباً من انفجار أو موت تشرد في الأحياء. والموت لا يسكن في بيوتهم، طردوه لكنه عاد، لامس الجدران التي أخذت مكان الأشجار، وجاهزة دائماً لاستقبال صور الراحلين. بيوتهم رحبة كأنها خارج المكان، والشبابيك في الضاحية تطل دائماً على أمل يأتي به أهلها من قلوبهم، فالشمس للغياب. لقد عاشوا هكذا، في سجن ودود، بوابته مشرعة على جميع الاحتمالات. والذي يريد أن يعرف الضاحية يجب أن يجلس في منتصف الغرف الرطبة، ويرى شكل العالم من هناك، ضيقاً، مرصوصاً بعضه فوق بعض، أسمنت فوق الأسمنت، لا يضحك لأحد. الضاحية ليست مربعاً أمنياً لبنانوياً، ولا صحراء سكانها جنود. لديهم عيون لم تصبح زجاجاً بعد، وأيدٍ كالرخام، معدّة لمصافحة من يودّ المصافحة. لا أحد سعيد بنهايات المكان، فهو حياتهم، وعلى موائده التهموا الفرح في أطباق الضرورة. وفائض القوة الذي شعروا به يوماً، ليس وهماً خالصاً، بل كفارة صنعوها لمساومة ذنوب لم يقترقوها. ما زال لدى السكان هناك شعور بالقوة، لا أحد يمكنه أن يفهم من أين يستقونه، ولكن معمل القوة هذا ليس الطريق. الطريق امتلأت بالأشلاء، أشلاء لها أسماء. وهذا جرس لم يكن يجب أن يقرعه أحد، لكننا سمعناه.