هل يمكننا الحديث عن «غياب روسي» عن الحدث السوري؟ الأسلحة تتدفق من موسكو إلى دمشق، كمّاً ونوعاً. الموقف السياسي الروسي أكثر صلابة مما يسمى «التحالف الدولي» ضد «داعش»؛ يشدّد الروس على أن ذلك التحالف بلا جدوى إذا لم يشمل سوريا وإيران، ويؤكدون أن طلعات طائرات التحالف في سماء سوريا، من دون موافقتها الصريحة واستئذانها، هو اعتداء على سيادتها؛ ويحذّرون دمشق من «الثقة بالوعود الأميركية»: الروس، إذاً، حاضرون، وإنما بالقَدر الذي تحدده القيادة السورية. ينطبق الأمر نفسه على إيران التي استعدّت للتدخل في عين العرب ـــ كوباني، «إذا طلبت الحكومة السورية منها» ذلك.
السؤال، بالتالي، لا يتعلق بالروس والإيرانيين؛ ولكنه يتعلق بالتوجهات السياسية السورية التي نحسب أنها في مرحلة استيعاب المتغيرات، وإعادة الحسابات، ومرونة التكتيكات التي يتقنها السوريون، خصوصاً في المنعطفات الكبرى.
تتعاطى دمشق مع النشاطات العسكرية للتحالف الأميركي في سوريا باعتبارها أمراً واقعاً؛ حصلت على تعهّدات أميركية مكتوبة، ليست هي الأساس، بل الأساس يكمن في تعقيدات المشهد الإقليمي والدولي، وخطوطها الحمراء التي تحول، أقله في المدى المنظور، دون العدوان على الجيش السوري أو المساس بالنظام وموقعه وقوته.
في المسار العسكري ـــ الأمني، يفيد الجيش السوري، الآن، من المتغيرات، لتحقيق انجازات في إطار تحرير المناطق التي تسيطر عليها التنظيمات المسلحة. وهي، كلها، أصبحت، بالمعنى السياسي، من الماضي؛ فلقد رُفع الغطاء الأميركي ـــ الأطلسي، وبالتالي الخليجي ـــ التركي عنها، لصالح «جيش منظم» من 15 ألف «جندي» من «المعتدلين» يتم اختيارهم على مستوى فردي، واخضاعهم لتدريبات عسكرية، وفق الوسائل والعقيدة العسكرية الأميركية، في السعودية وتركيا. هذا «الجيش» لا يعده الأميركيون، كما هو واضح من عديده ونمط تأهيله ذي الطابع السياسي بالدرجة الأولى، لمواجهة الجيش السوري، ولا لمواجهة «داعش» ولكن للحلول محلها؛ سيكون أشبه بشرطة تحت الحماية الدولية.
«المعارضة المسلحة» و«الائتلاف» وسواهما من التشكيلات العسكرية والسياسية، فات زمانها دولياً وإقليمياً؛ ما بقي لدينا الآن: «داعش» في شمال شرقي سوريا، وهي تتلقى الدعم من تركيا، و«النصرة» في الجولان وجوارها، وهي تتلقى دعماً إسرائيلياً.
لكن، سياسياً، تظل المنطقتان هاتان، داخل الحدود التي ترسمها موازين القوى الدولية والإقليمية؛ وهي ستعبّر عن نفسها، في وقت ما ليس بعيداً، في مناخ دولي يقترح تسويات؛ ليس على طريقة «جنيف 2» المضحكة، وإنما في سياق ثلاثة تفاهمات منتظرة موضوعياً: تفاهم روسي ـــ أميركي، وآخر إيراني ـــ أميركي، والثالث سوري ـــ سعودي.
أما بالنسبة إلى تركيا أردوغان؛ فهي ملزوزة، في الأخير، إلى أحد خيارين: إذا لم تنضبط، عسكرياً وأمنياً وسياسياً، في سياق «التحالف» الأميركي، فإن لدى الأميركيين ما يفعلونه نحوها: القضية الكردية ستغدو على جدول الأعمال الدولي، مما يشكّل غطاء أممياً لنقل الأزمة إلى الداخل التركي. الأرجح أن أردوغان سيناور للحصول على مكاسب قبل الرضوخ للأميركيين، لكن مكاسبه الممكنة ستكون على حساب الكرد، لا على حساب الرئاسة السورية.
ماذا تريد الولايات المتحدة، ولماذا تستعيد، ولو جزئياً، حضورها العسكري والسياسي في العراق وسوريا؟ الإجابة الأقرب إلى الواقعية هي أنها قررت إنهاء الأدوار السياسية والأمنية لحلفائها في المنطقة، أولئك الذين وصمهم نائب الرئيس الأميركي، جون بايدن، بأنهم شجعوا وموّلوا الإرهابيين ضد الرئيس الأسد.
القوتان الإقليميتان اللتان ستلعبان دوراً ما، هما السعودية التي ربما سيعهد إليها بدور في التفاهم مع دمشق حول حكومة موسعة تشمل أصدقاءها؛ ومصر التي ستخوَّل الملف الفلسطيني.
واشنطن التي لم توافق، بعد، على منطقة عازلة في الشمال، لن تتعامل مع أي مشروع إسرائيلي في الجنوب، يؤدي إلى حرب إقليمية؛ الحرب الإسرائيلية ممنوعة على الجبهة الشمالية؛ ولذلك كان الرد الإسرائيلي على ضربة حزب الله في شبعا، هو ابتلاع الصفعة؛ لدى إسرائيل حساباتها بالطبع؛ كذلك، لا يزال هناك مَن يخطط، مع «جبهة النصرة»، لاستخدام القنيطرة كمركز لغزوة نحو دمشق، على أن تكون محسوبة بدقة بحيث تتلافى مجابهة إسرائيلية مع الجيش السوري وحزب الله.
من الواضح أن الولايات المتحدة، تسعى إلى تحييد جميع الأطراف، ما عدا مصر، عن ملف التسوية الفلسطينية ــــ الإسرائيلية المأمول تفعيلها من دون اعتراض محور المقاومة، ومن دون مداخلات قطرية ــــ تركية، أولاً، إعادة اعمار غزة ليست سوى عنوان عريض لإغلاق جبهة الحرب مع غزة، ثانياً، ذلك يعني إلزام حماس بالانضمام إلى الإجماع الفلسطيني المستعد للانخراط في مباحثات تسوية جديدة، خصوصا إذا تمكن الأميركيون من اخضاع حلفائهم الإقليميين لخط سياسي تحدده واشنطن بالتفاصيل. وهذا ممكن. وفي الوقت نفسه استبعاد محور المقاومة عن الشأن الفلسطيني. وهذا ما تحدده المتغيرات في موازين القوى.
5 تعليق
التعليقات
-
الاسس الاقتصادية للفوضى الخلاقة -2 وعموما ليس امام فرنساالتي تدير الاتحاد الاوروبي من خيار سوى المناورة مع الامريكي من خلال وكيلها العثماني اردوغان. ويبدو انه لاخيار للاتحاد الاوروبي سوى التعويل في المستقبل القريب على الغاز والنفط الصخري الامريكي الجاري اعداده للتصدير خلال العامين القادمين -وبوتيرة متسارعة فاقت كل التوقعات وكما نلحظ حاليا في الهبوط المتسارع لاسعار النفط الخام بسبب الاكتفاء الذاتي الامريكي !كما ويبدو ان العم سام يمضي قدما في مخططاته الرامية الى السيطرة والتحكم باسعار وكميات الطاقة المعروضة مستقبلا (خصوصا بعد ان اصبح منتجا رئيسيا لها) وما يعنيه ذلك من محاصرة واحتواء روسيا (والصين)على المدى البعيد . وفي الاثناء , تجري الاستعدادات الامريكية لادارة الفوضى الخلاقة في المنطقة ولعقود طويلة من خلال طي مرحلة الدواعش بتجهيز "مارينز اخونجي" يتم تدريبه في السعودية وتركيا والاردن.
-
الاسس الاقتصادية للفوضى الخلاقة -1ماالمحت اليه صحيح : الموقف الروسي سيزداد تشددا وحزما وهو يلحظ المصالح الاقتصاديةالامريكية من وراء تعميم الفوضى الخلاقة لعقود قادمة في منطقتنا المتخمة بطاقة الغاز "النظيفة" والحيلولة دون وصولها-على الاقل في المرحلة الراهنة- الى الاتحاد الاوروبي (وخلافا للرغبات الفرنسية والتركية).هذاالاتحاد يبحث حاليا عن بديل للغاز الروسي خصوصا بعد ان بحث الغاز الروسي بدوره عن بديل ووجده في الزبائن الجدد الموثوقين مثل الصين !الصورة معقدة وتزداد تعقيدا بسبب تناغم "الحلفاء" الاطلسيين (واذنابهم) في الاهداف السياسية الرامية الى تفكيك حلف المقاومة واسقاط النظام الوطني السوري , ولكن هؤلاء الحلفاء يفترقون ويتضاربون بسبب اختلاف المصالح الاقتصادية الذاتية. صحيح ان هذا التضارب في المصالح لم يظهر حتى هذه اللحظة بصورة جلية للعلن ,ولكن هذا لايعني انه غير موجود (وان كان يمكن استشفافه من الخلاف الاوروبي الامريكي والمعبر عنه بواجهة تركية حول اقامة منطقة عازلة محاذية لدولة دواعش طائفية في اجزاء من سوريا والعراق لتمرير خطوط الغاز القطرية ولاحقا خطوط غاز الربع الخالي السعودية صوب تركيا فالاتحاد الاوروبي وهو بالتاكيد ماترفضه واشنطن )!
-
اعادة تقييمكل هذه التحليلات تنطلق من معطى خاطئ و هو ان لاميركا سياسة مستقلة عن السيطرة الاسرائيلية لذلك يجب اعادة التقييم.
-
كلٌ في مكانهالتفاوض في المسألة السورية وعليها ، كان حاضراً منذ بداية الأزمة بل وحتى قبل أن تبدأ ، من قبل الأطراف الخارجية المؤثرة بها ، والتي افتعلتها وشاركت بالتخطيط لها ، وسخّرت لتنفيذها أدوات محلية وأخرى إقليمية وغيرها ، وقد أخذ هذا التفاوض - عبر تطور الأحداث - شكل المساومة ، على مواقف ومبادئ أساسية وإستراتيجية بالنسبة للحلف المقابل ، لأنها محكومة بطبيعة المصالح والتحالفات والصراعات السائدة بالمنطقة ، والتي تكّونت إثر هيمنة سياسة القطب الواحد ، ونتيجة لعملية استقطاب القوى بتأثير تناقضات رئيسة موجودة على الساحة المحلية والإقليمية والدولية هذه الأطراف استخدمت كلّ ما بوسعها من استراتيجيات التفاوض المعروفة ، واستحضرت كلّ النماذج النظرية للمباريات الحوارية ، ليكون ذلك دليل عملها على أرض الواقع ، ولا أظن بأنها حتى اليوم استطاعت أن تحقق هدفها النهائي ومصالحها المطلقة ومصالح حلفائها ، في سياق ما يُسعى إليه . المرحلة الجديدة في التفاوض هي استمرار تمرير الوقت لتحسين الشروط أمريكا نعم بدلت تكتيكها وأصبح تدخلها مباشراً لتحقيق مصالحها ، فأدواتها لم تنفعها طيلة عمر الأزمة ، لكن موقف السعودية وتركيا ما زال في مكانه ، ما زالتا تراهنان على عدم التفاوض مع السوريين ، ما زالتا تصعدان وذلك يؤخر التفاهم ويعيق التسوية الشاملة الروس والإيرانيون ما زالوا يعملون بصمت ولكن بشكل مؤثر ، علمونا كيف أن التفكير الموضوعي يجعل التفاوض مبدئياً ومدروساً سورية صمدت وهي إلى مزيد ، سيكون الصبر والتروي والحكمة مفتاحها إلى النصر