خلال العقدين الماضيين، لم يكن أيٌّ من الموظفين في الإدارة الأميركية يكذب حين يُسأل عن الهدف الأول من السياسة الخارجية لبلده في المنطقة، فيجيب بوضوح: أمن إسرائيل. ولم يكن ذلك مرتبطاً بصدق الديبلوماسية الأميركية وشفافيّتها، بل بإصرار الأميركيين على عدم إفساح المجال لسياسيين وإعلاميين وناشطين ورجال أعمال لبنانيين للتذاكي أو القول لاحقاً إنهم يتقاطعون مع الأميركيين فقط على قضايا جانبية مثل حقوق الانسان وإنشاء المحميّات وتشجيع صناعة المخلّلات والمكدوس. وخلال السنوات الماضية، وسّع الأميركيون استثمارهم في البلد لتطعيم دائرة المتعاونين تاريخياً معهم، من رجال دين وسياسة وقانون وأمن وإعلام، بوجوه جديدة أكثر حماسة واندفاعاً وأقلّ ثقافة وتحسّباً.لكن المفارقة منذ السابع من أكتوبر أن الأداء الأميركي كان مختلفاً بالكامل عمّا هو متوقع. إذ يقول الأميركيون في الممارسة - حتى الآن - إن الطريق لضمان أمن إسرائيل لا يمرّ بالفوضى في لبنان وإنما بالفوضى في إسرائيل، ولا يمكن حماية إسرائيل بتهديد حزب الله وإنّما بتبنّي تهديدات الحزب لإسرائيل.
فرغم قدرة واشنطن على إثارة فوضى جدّية في لبنان جرّاء تقدّمها على خصومها في الإدارة اللبنانية والمؤسسات الأمنية والإعلام وطباعة الدولار، آثرت عدم إطلاق صفّارة الفوضى كما حصل بعد زيارة وزير الخارجية الأميركية السابق مايك بومبيو لبيروت عام 2019 ورفض رئيس الجمهورية السابق العماد ميشال عون الامتثال لأوامره في ما يخصّ الصواريخ الدقيقة والتوطين وصفقة القرن. ويمكن في هذا السياق المقارنة بين ما يشهده الشارع الإسرائيلي من تظاهرات ضخمة للضغط على حكومة بنيامين نتنياهو، والشارع اللبناني الذي لم يجد من يترجم حملة «لا للحرب» على الأرض أو يواصل تمويل حملتها الإعلانية.
ومن الشارع إلى الإعلام، كمّ الأخبار التي تتلاعب بالرأي العام الإسرائيلي رغم الرقابة الاسرائيلية الصارمة لا تقارن بمواقف بعض التافهين في لبنان ممن يتنقّلون بين المنصّات التفاعلية وبعض التلفزيونات، في ظل غياب القرار والتمويل لفتح الهواء جدياً ضد الحزب كما حصل بعد تفجير المرفأ مثلاً. وهو ما يسمح بالقول إن الوضع في لبنان أفضل على المستوى الإعلامي ممّا هو في إسرائيل، رغم وجود رقابة هناك.
وعلى المستوى الحكومي - السياسي، في إسرائيل اليوم حكومة ومعارضة وجيش ومجموعات دينية يتناتشون بعضهم البعض، وضمن كل مكوّن من هؤلاء مشاكل لا تحصى. في الائتلاف الحكومي وزراء موالون لنتنياهو ومناوئون له. «مجموعة نتنياهو» تنقسم بين متديّنين وعلمانيّين، والمتديّنون ينقسمون بين متشدّدين وغير متشدّدين، والأمر نفسه ينسحب على سائر مكوّنات الائتلاف الحكومي والمعارضة والجيش، بحيث لا يعود المتابع في نهاية اليوم قادراً على فهم من مع من، ومن ضد من.
في المقابل، أخرج حلفاء واشنطن في لبنان أنفسهم من السلطة التنفيذية، تاركين لحزب الله تنسيق الموقف الرسمي للدولة اللبنانية براحة مطلقة، سواء مع رئيس مجلس الوزراء نجيب ميقاتي أو وزير الخارجية عبد الله بوحبيب، فيما تحرص قيادة الجيش على التنسيق مع الحزب في علاقة متجانسة بين الحكومة والجيش والمقاومة. وفي ظل الموقف الأميركي السابق ذكره والانكفاء السعودي، انتقل كثيرون من موقع مخاصمة الحزب إلى «إسناده»، وخصوصاً في البيئتَين السنّية والشيعية. وهو ما يسمح بالقول إن الجبهة الداخلية اللبنانية التي كان يفترض بواشنطن أن تستخدم أدواتها فيها لإشغال حزب الله أو تشتيت تركيزه أو الضغط عليه هي أكثر تماسكاً اليوم من مراحل كثيرة سابقة ولا تشكّل أيّ ضغط عليه، على عكس الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي يستخدمها الأميركيون بدقة وكثافة للضغط على نتنياهو.
الأهم والأكثر جدية على مستوى دور واشنطن هو ما كررته وزارة الخارجية الأميركية ثلاث مرات خلال الأسبوع الماضي على لسان مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون الشرق الأدنى باربرا ليف، ومبعوث الرئيس الأميركي عاموس هوكشتين، ثم الوزارة نفسها في بيان رسمي: «تبنّت» ليف مقاربة حزب الله، داحضة كل المشكّكين بجدوى الجبهة اللبنانية وتنمّرهم على «إسناد غزة»، بقولها حرفياً «إن وقف إطلاق النار في غزة سيُمثّل اختراقاً من أجل الوصول إلى حلّ على الحدود بين لبنان وإسرائيل»، وتبعها هوكشتين بالقول من بيروت إن «وقف الحرب في غزة وإيجاد حل ديبلوماسي يمكن أن يفضي إلى حل بشأن الخط الأزرق ويسمح للمدنيين بالعودة من الجانبين»، قبل أن يؤكد بيان الخارجية أن «التوصل الى اتفاق لوقف إطلاق النار في غزة سيسهم في خفض التصعيد على الحدود اللبنانية - الإسرائيلية». ولا شك في أن مرور الإعلام مرور الكرام على هذه التصريحات الثلاثة، رغم أهميتها، كان لتجنب الإحراج إذ تمثل ضربة هائلة لخصوم الحزب في الداخل والخارج، سواء عبر دحض خيار الحل العسكري لتأمين الأمن لإسرائيل، أو عبر تجاهل القرارات الدولية وعدم ذكر القرار 1701 من قريب أو بعيد، أو عبر القول بكل وضوح إن الحل الوحيد الذي تقدّمه الخارجية الأميركية للإسرائيليين اليوم هو ما قدّمه حزب الله في الثامن من أكتوبر: «تتوقف الحرب الإسرائيلية على غزة فيتوقف إطلاق النار من لبنان»، ليتبيّن بالتالي أن الإسناد الذي سخر منه خصوم المقاومة يحقق غايته، وهو لم يعد أداة أساسية بيد المحور لوقف الحرب على غزة فحسب، وإنما الأداة الأساسية وربما الوحيدة في واشنطن لإقناع نتنياهو بقبول التسوية في غزة. فبعدما تبيّن للأميركيين عدم اكتراث نتنياهو بضغوطهم المباشرة عليه والتحوّلات على مستوى الرأي العام العالمي واعتراف عدّة دول جديدة بالدولة الفلسطينية ومحاكمة إسرائيل دولياً وتعاظم مشاكلها داخلياً، ثبت لهم أن الجبهة الشمالية مصدر قلق كبير له، فباتوا يحاولون «إمساكه» من خلالها: وقف إطلاق النار جنوباً يوصل إلى حلّ شمالاً، تقول له ليف. واللافت هنا أن نتنياهو الذي لا يمرّر أيّ موقف أميركي لم يعلّق على ثلاثيّة الخارجية الأميركية، ولا على إعلان رئيس هيئة الأركان الأميركية المشتركة بأن واشنطن «تحذّر» إسرائيل من «توسيع الصراع»، في ظل قدرات الحزب التي «تتجاوز قدرات حماس» ويصعب «صدّ صواريخه»، كما «يصعب علينا دعم إسرائيل بالطريقة نفسها التي فعلناها في نيسان عند صدّ الهجوم الإيراني».
الحلّ الذي تقدّمه الإدارة الأميركية للإسرائيليين هو ما قدّمه حزب الله: تتوقف الحرب على غزة فيتوقف إطلاق النار من لبنان


مع العلم أن الأسابيع القليلة الأولى التي تلت السابع من أكتوبر، وما تبعه من إسناد لبنانيّ لغزة، شهدت تقصّياً جدّياً حول خلفية التوصيات الأميركية المتتالية للأدوات السياسية والإعلامية في لبنان بوجوب الهدوء والعمل على طمأنة حزب الله بدل أي شيء آخر، قبل أن يتّضح القرار الأميركي أكثر غداة جريمة قتل المسؤول القواتي في جبيل باسكال سليمان، حين استنفرت السفارة الأميركية شركاءها اللبنانيين من رجال دين وأمن وإعلام وسياسة لاحتواء الحادث، ليتكرّر الاحتواء بسرعة أكبر بعد الاعتداء على السفارة نفسها في عوكر رغم محاولة قناة «العربية» فتح الهواء والاستثمار في الموضوع. ومن يدقّق في المشهد من هذه الزاوية، يلاحظ أن من يطبّلون ويزمّرون للإسرائيلي هم من نشأوا في المعسكر الإسرائيلي، أما المؤتمرون بالأوامر الأميركية فيلزمون الهدوء حتى لو غلبت طباعهم العدوانية تطبّعهم بين وقت وآخر.
وإذا كان الثابت دائماً في السياسة الخارجية الأميركية هو ضمان أمن إسرائيل، فإن القراءة الهادئة للأداء الأميركي تتيح القول إن الأميركيين يتصرّفون اليوم، عملياً على الأرض، على أساس أن الاستقرار السياسي وفعل كل ما يلزم لطمأنة حزب الله من جهة، وتسعير الانقسامات الإسرائيلية باختلاف أشكالها في وجه نتنياهو من جهة أخرى، هو ما يضمن أمن إسرائيل. مع الأخذ في الحسبان دائماً أن هذا كله قد يكون مؤقتاً حيث بإمكان الولايات المتحدة أن تغيّر التكتيك المعتمد لتقرع جرس الفوضى الداخلية - مهما كانت فعاليّتها - حين تعتقد أن الوقت قد حان لذلك. لكن حتى يحصل ذلك، في حال حصوله مستقبلاً، ثمّة براغماتية أميركية لا بد من التوقف عندها والبناء عليها.