خلال زيارته الأولى لبيروت في كانون الثاني الماضي، سمع مدير الاستخبارات القبرصيّة تاسوس تزيونيس، في جولاته، أسئلة لبنانية حول موقف قبرص من استخدام العدوّ الإسرائيلي جغرافية الجزيرة في أي عدوان مقبل على لبنان، وخطورة هذا الأمر على العلاقات بين البلدين.وجاءت زيارة وزير الخارجية كونستانتينوس كومبوس في نيسان، وزيارتان للرئيس نيكوس خريستودوليسدس، آخرهما في أيار برفقة رئيسة المفوّضيّة الأوروبية أورسولا فون دور لاين قبل انتخابات البرلمان الأوروبي، لبحث أزمة اللاجئين، من دون أن تردّ نيقوسيا على الاستفسارات والهواجس اللبنانية.
طبعاً لم تنطلق الأسئلة الأولى من فراغ. لطالما كانت العلاقة بين قبرص وإسرائيل مقبولة إلى جيّدة. لكنّ نيقوسيا حافظت دائماً على علاقات الأخوّة مع بيروت ودمشق، وشكّلت متنفساً اقتصادياً وسياحياً للبنانيين والسوريين، وحتى سياسياً لمن ضاقت بهم السبل من مختلف محاور الصراعات.
في السنوات الأخيرة، استغلّت إسرائيل توتّر العلاقات القبرصية - التركية، وانشغال دمشق بحربٍ ضروس، مع التحولات السياسية في الجزيرة والحضور الغربي المتزايد، لتعميق العلاقة العسكرية والأمنية مع الجيش القبرصي. لكنّ التعاون العسكري لم يقف عند حدّ، بل تحوّل إلى نشاط عدائي تجاه لبنان، إذ إن أوّل مناورة مشتركة بين جيش العدو والجيش القبرصي انطلقت عام 2017، بهدف معلن هو محاكاة حربٍ على لبنان، بالاستفادة من الجغرافيا المماثلة لجغرافيا الجنوب اللبناني لتنفيذ الهجمات البريّة، واستغلال قواعد سلاح الجوّ القبرصي لإقلاع طائرات سلاح جو العدوّ.
وفي عام 2022، حظيت مناورة «مركبات النار» على الأراضي الفلسطينية المحتلة والقبرصية، بتغطية إعلامية واسعة من الإعلام العبري لنشاط اللواء اللوجستي في الفرقة 98 في الجيش الإسرائيلي على الأراضي القبرصية، في محاكاة لتنفيذ عملية برية في الأراضي اللبنانية وعمليات خاصّة في العمق اللبناني ضمن حرب تمتد لشهرٍ على «الجبهة الشمالية»، خصوصاً أن هذا اللواء، هو رأس حربة في الهجوم على لبنان وتأسّس لهذه الغاية.
بالطبع، لم تشكّل رؤية خمسة آلاف جندي إسرائيلي على أراضي الجزيرة في مناورة مشتركة مع الحرس الوطني القبرصي الذي شارك في المناورة بعددٍ قليلٍ من الجنود، خبراً جيداً لسكّان الجزيرة، وتعرّضت الحكومة السابقة لانتقادات واسعة من وسائل الإعلام المختلفة.
لكن منذ بداية الحرب على غزّة، وتزامناً مع زيارة مدير الاستخبارات القبرصية لبيروت، تزايدت الأنباء والتلميحات في الإعلام العبري عن استفادة إسرائيل الحالية والمستقبلية من الأراضي القبرصية في العدوان على غزّة وعلى لبنان في حال اندلاع حربٍ واسعة، إذ إن جيش العدوّ يخشى من تعرّض مطاراته العسكرية وموانئه للقصف والتعطيل في حال انفلاش الحرب مع حزب الله، وأعدّ الخطط لاستخدام القواعد الجويّة القبرصيّة كبديلٍ عن مطاراته وقواعده. وأوضح مثال، المناورة التي قام بها سلاح الجو في الجيشين خلال نيسان الماضي، ولم تعلّق الحكومة القبرصية على ما ذكره الإعلام العبري من هدف للمناورات المعلنة بمحاكاة الحرب على لبنان. لا بل ذهبت بعض التفسيرات الحكومية إلى وضع المناورات في إطار التعاون المشترك لحماية المصالح البحرية المشتركة.
وزير خارجية قبرص تواصل مع بو حبيب، وترقّب لزيارة مدير المخابرات لبيروت قريباً


ولعلّ التحرّك السريع للرئاسة القبرصية والمسارعة إلى طمأنة لبنان، من خلال تصريح الرئيس والناطق باسم الحكومة، والاتصال «الإيجابي» بين وزير الخارجية عبدالله بو حبيب ونظيره القبرصي أمس، استدراكٌ قبرصي لخطورة الخطوة التي زجّت إسرائيل الجزيرة بها.
وعلى ما أكّد بيان وزارة الخارجية، فإن النوايا القبرصية المعلَنَة مُطمئنة وتعبّر عن العلاقات الطبيعية بين البلدين. لكن فعليّاً، لم تتّضح العديد من النقاط والملابسات التي يطرحها النشاط العسكري المشترك بين الجيش القبرصي وجيش العدو. على سبيل المثال، لم يظهر بوضوح إن كانت قبرص سترفض استخدام قواعدها الجوية من قبل العدو الإسرائيلي؟ وهل ستسمح لإسرائيل باستخدام قاعدة بافوس الجوية كما يحصل في السنوات الأخيرة؟ أم أن القوات القبرصية فقط لن تشارك في الهجمات، كما حصل في المناورات المشتركة بين الجيشين؟ كما يمكن السؤال أيضاً عن حقيقة قيام المقاتلات البريطانية بالانطلاق من القواعد القبرصية للتصدي للصواريخ والمُسيّرات الإيرانية فوق البحر المتوسط وقرب السواحل اللبنانية خلال الردّ الإيراني، وعمّا إذا كانت الجزيرة منطلقاً أيضاً لمقاتلات غربية للدفاع عن إسرائيل في حال اندلاع حرب واسعة مع لبنان؟ كل هذه الأسئلة، ربّما يجيب عنها مدير الاستخبارات القبرصية في زيارته المقبلة للبنان.