أوفَدَت الحكومة اللبنانيّة في 10 و11 تشرين الأول 2006 بعثة إلى قبرص لبحث موضوع الترسيم لحدود المنطقة الاقتصاديّة الخالصة بين البلدين. ضمّت عضوين فقط هما مدير عام النقل البرّي والبحري في وزارة الأشغال وخبير في الشؤون البحريّة، فيما مثّل الجانب القبرصي مدير قطاع الطاقة في وزارة التجارة والصناعة والسياحة، وسبعة مندوبين من وزارات وقطاعات قبرصيّة عدة، جميعهم من الخبراء والقانونيين. وخلال يومين فقط، توصل الوفدان إلى مسودة اتفاقيّة اعتمدت طريقة الخطّ الوسطي في تقاسم المساحة المائيّة التي تفصل البلدين وفق النقاط المتساوية الأبعاد.

مطلع 2007 دخل لبنان في أزمة سياسيّة كبيرة إثر استقالة ستة وزراء من الحكومة. ورغم اعتبار رئيس الجمهورية أن الحكومة «باتت فاقدة للشرعية الدستورية»، في كتاب رسمي أرسله إلى رئيسيها، ومن دون أي سبب يدعو للعجلة، واستناداً إلى مسودة الاتفاق المنجزة عام 2006، وقّعت حكومتا البلدين في بيروت، في 17 كانون الثاني 2007، اتفاقية على مستوى الوزراء لتقاسم المساحة البحرية بينهما. ونصّت المادة الخامسة من الاتفاقية أنها تصبح سارية المفعول لدى تبادل الطرفين وثائق الإبرام، وهو ما يتم حتى اليوم.
عام 2011، أصدر لبنان المرسوم الرقم 6433 الذي حدّد حدوده البحريّة مع قبرص وفق منهجيّة خط الوسط المتبعة في اتفاقية 2007، وأودعه لدى الأمم المتحدة مع الاحتفاظ بحق التعديل كما نصّت المادّة الثالثة منه، علماً أن المرسوم الذي صدر من دون دراسة وافية، برزت عيوبه الفاضحة عند ترسيم حدود لبنان البحريّة الجنوبيّة عام 2022.

عيوب في منهجية الترسيم
وفق اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار الصادرة عام 1982، فإن اعتماد خطّ الوسط ليس طريقة وحيدة للترسيم بين الدول الساحليّة المُتقابلة. والقاعدة الأساسيّة لتعيين الحدود البحريّة بين الدول هي الترسيم العادل والمُنصِف مع الأخذ في الحسبان جميع الظروف الخاصة ذات الصلة.
كما أن الأعراف الدوليّة، وفق القانون البحري وأحكام المحاكم البحرية الدولية في حالات مشابهة، تثبت أن منهجيّة خطّ الوسط تُعتمَد كخطوة مبدئيّة أوليّة فقط لتعيين الحدود، وتم الانطلاق منها لتعديل الخط وتصحيحه وفق المُعطيات والعوامل الجغرافيّة وغير الجغرافيّة، وأهمّها وجود جُزُر وحجمها ومكانها ومدى تأثيرها على انحراف خطّ الوسط، إضافة إلى طبيعة الشواطئ وأطوالها. وعندما تؤخَذ هذه العوامل في الحسبان، يتم تطبيق المعيار المعروف بمعيار التناسُب (Proportionality test) على ترسيم الحدود، لتحديد ما إذا كانت النتيجة عادلة أم لا، ويتمّ تعديل ترسيم الحدود أو تغييره نتيجة معيار التناسب للتوصّل إلى ترسيم عادل للطرفين.
بناء عليه، فإن الاتفاقية الموقّعة بين لبنان وقبرص عام 2007 لا تتوافق مع قرارات وأحكام دوليّة عدة أصدرتها محكمة العدل الدوليّة في حالاتٍ مُشابهة، ولا تتوافق مع فقه القانون الدولي البحري، ولا تخدم مصالح لبنان وحقوقه لأسباب عدة أهمّها أنها:
- تجاهلت الظروف الخاصة.
- اعتبرت حقوق قبرص كجزيرة مساوية لحقوق لبنان كبلد قارّي ساحلي لديه واجهة بحرية واحدة.
- تجاهلت معيار التناسب كلياً، ولم تأخذ في الحسبان نسبة طول الاتجاه العام للشاطئ، ولا نسبة طول خط الشاطئ المتعرّج المتمثّل بخطّ الأساس العادي للبلاد ذات الشواطئ المُتقابلة.
لا ينبغي أن يخشى لبنان التحكيم لأنه حصل في الاتفاقيّة الحالية على أقلّ بكثير من حقوقه وليس لديه ما يخسره بعد


مبدأ التناسب
ينطلق خط الاتجاه العام للشاطئ اللبناني من النقطة الحدوديّة البحريّة الرقم (17) عند مصبّ النهر الكبير الجنوبي، وينتهي في النقطة الرقم (18) عند نقطة رأس الناقورة، ويبلغ طوله حوالى 188،55 كلم.
في المقابل، ينطلق خط الاتجاه العام للشاطئ القبرصي المقابل للبنان، من الرأس البحري (Cape Greco) شمالاً، وينتهي جنوباً عند الرأس البحري الواقع في منطقة أكروتيري (Acrotiri) الخاضعة للسيادة البريطانيّة ضمن جزيرة قبرص، ويبلغ طول الاتجاه العام للشاطئ القبرصي حوالى 103,13 كلم.
يعني ذلك أن النسبة بين طول الاتجاه العام للشاطئين هي 1,83 للبنان، مقابل 1 لقبرص (انظر الخريطة).
وبما أن المساحة البحرية المشتركة بين لبنان وقبرص تبلغ نحو 31265,341 كلم مربعاً، فإن تقاسمها نسبةً إلى طول الاتجاه العام للشاطئ لكلا البلدين، يجعل حصّة لبنان تبلُغ 20217.55 كلم2، في مقابل 11047,791 كلم مربعاً لقبرص.
وبالعودة إلى اتفاقية 2007 التي اعتمدت الترسيم بطريقة خطّ الوسط، فقد أعطت لبنان 17573,7 كلم مربعاً فقط، ما أدّى إلى خسارته 2643,85 كلم مربعاً في ما لو تم اعتماد معيار التناسُب بين طولي الاتجاه العام للشاطئ لكلا البلدين.

إعادة التفاوض وخارطة الطريق
لا تكاد تخلو زيارة أي مسؤول قبرصي إلى لبنان من الإلحاح في طلب تصديق لبنان اتفاقية 2007، خصوصاً بعد إنجاز الاتفاق على ترسيم الحدود البحريّة الجنوبيّة عام 2022، بهدف تكريس الإجحاف الذي لحق بلبنان جراء هذه الاتفاقية، والإجحاف المماثل جراء الاتفاق البحري لعام 2022 عبر تثبيت النقطة الثلاثية المتمثِّلة في النقطة 23. لذلك، وتلافياً لتكرار ما حصل عند ترسيم الحدود البحرية، فإن الحكومة الحاليّة والأجهزة المعنيّة مطالبة بتحضير ملف متكامل حول الترسيم البحري مع قبرص يكون جاهزاً للبحث وفق مصلحة لبنان فور استقامة الأمور السياسيّة وانتخاب رئيس للجمهوريّة، على أن يتضمَّن الخطوط العريضة والمبادئ الآتية:
1 - إعداد ملف تقني لإعادة التفاوض على الترسيم البحري مع قبرص وفق منهجية معيار تناسُب أطوال الاتجاهات العامّة للشواطىء بدلاً من منهجية خط الوسط.
2 - إعداد ملفّ قانوني لتبيان حقوق لبنان وفق مندرجات القانون البحري الدولي وأحكام المحاكم الدوليّة البحريّة في قضايا مماثلة، ولدرس كل الاحتمالات القضائيّة.
3 - الاستعانة في تحضير الملفين بشكلٍ أساسي بالجيش اللبناني، نظراً إلى ما يمتلك من خبرة ومعلومات وخرائط في هذا المجال، وخصوصاً في القوات البحريّة اللبنانيّة ومصلحة الهيدروغرافيا التي أُنشئت فيها عام 2014.
4 - إعداد مشروع لتعديل المرسوم الرقم 6433/2011، وفق الحدود البحريّة الجديدة قبل المباشرة في أي مفاوضات مع قبرص وإيداعه الأمم المتحدة.
5 - اعتبار الاتفاقيّة الموقعة مع قبرص وغير المصدّق عليها بعد غير نافذة وغير موجودة، عبر إعلان رسمي من السلطة اللبنانيّة، كونها مخالفة للمادّة 52 من الدستور اللبناني في حال التعامل معها على أنها سارية المفعول. وهذه المادّة تنصّ على أنه «يتولّى رئيس الجمهوريّة المُفاوضة في عقد المعاهدات الدوليّة وإبرامها بالاتفاق مع رئيس الحكومة. ولا تُصبح مُبرمة إلا بعد موافقة مجلس الوزراء. أما المعاهدات التي تنطوي على شروط تتعلَّق بماليّة الدولة والمعاهدات التجاريّة وسائر المعاهدات التي لا يجوز فسخها سنة فسنة، فلا يُمكن إبرامها إلا بعد موافقة مجلس النواب»، وفي هذه الاتفاقيّة، لم يتولَّ رئيس الجمهوريّة عملية التفاوض، ولم تتم إحالتها إلى مجلس النواب حتى تاريخه لمناقشتها وإجراء التعديلات اللازمة عليها وإبرامها.
6 - تشكيل لجنة تقنيّة وقانونيّة لوضع إستراتيجية مفصلة لإدارة المفاوضات تضع مصالح لبنان أولاً، وتعمل بطريقة منضبطة وسريّة بعيداً من التسريب الإعلامي والاستغلال السياسي والشعبوي.

حلول ديبلوماسيّة أم تحكيم؟
نصَّ الجزء الـ 15 من اتفاقيّة الأمم المتحدة لقانون البحار عام 1982 على طريقتين رئيسيَّتين لحلّ النزاعات بين الدول بالطرق السلميّة، هما: الطرق الديبلوماسيّة (تفاوض، وساطة، تحقيق، توفيق)، أو الطريقة القضائيّة بالتحكيم عبر محاكم التحكيم الخاصة أو العامة أو عبر المحاكم الدولية.
نصّت الاتفاقية غير النافذة مع قبرص في مادتها الرابعة على أن «أي خلاف يقع من جراء تطبيق هذه الاتفاقية يجب أن يحل عبر الوسائل الديبلوماسية بروح من التفاهم والتعاون، وفي حال لم يتوصل الطرفان إلى حل مقبول لهما عبر الوسائل الديبلوماسية ضمن مدة معقولة من الزمن، يتم حينها إحالة الخلاف إلى التحكيم».
ومرور 17 عاماً على توقيع الاتفاقيّة من دون إبرامها من قِبَل لبنان، يعني بالتأكيد عدم التوصُّل إلى حلّ مقبول ضمن مدة معقولة من الزمن. وإذا لم تنجح المفاوضات في حال استئنافها، فلا ضرر من اعتماد التحكيم الذي يتوافق مع اتفاقية الأمم المتحدة لقانون البحار 1982 كون لبنان وقبرص منضمّين إلى هذه الاتفاقية. وبالتالي، هما مُجبران على حلّ النزاع بينهما وفقاً للجزء الخامس عشر منها، وهذا ما يضمن حق لبنان ويزيل إشكالية امتدّت زمناً طويلاً، إضافةً إلى أن لبنان حصل في الاتفاقيّة الحالية على أقلّ بكثير من حقوقه الدنيا، وبالتالي ليس لديه ما يخسره بعد.

* عميد ركن متقاعد، الملحق العسكري السابق لدى جمهورية قبرص، وخبير في ترسيم الحدود البحرية والبرية.