انقر على الجدول لتكبيره
اختيار 1997 لدراسة العجز التجاري يعود إلى أنه في ذلك العام بدأ تثبيت سعر الصرف بشكل كامل ورسمي وبدأت الدولرة تأخذ منحى مختلفاً عما كانت عليه سابقاً، فضلاً عن أنه في تلك السنة بدأت الدولة تقترض من المصارف بالدولار. في ذلك العام استقر سعر الدولار على 1500 ليرة وبقي على هذه الحال حتى عام 2019 حين انفجرت فقاعة نقدية - مالية في وجه الجميع. فهذا الأمر كان عاملاً أساسياً في العجز التجاري. إذ إن تثبيت سعر الصرف، جعل قيمة العملة السوقية أعلى من قيمتها الحقيقية، بمعنى أنه ضخّم القدرة الشرائية لليرة اللبنانية، وهو أمر لحقه ارتفاع في الأجور الاسمية أيضاً. بمعنى آخر، تضخّمت القدرة الشرائية للأجور اللبنانية من ناحيتين؛ ارتفاع حجم الأجور الاسمية، وارتفاع في قوّتها الشرائية، بمعنى أن قيمة المليون ليرة أصبحت أكبر بالدولار.
هذه القدرة الشرائية «المنفوخة» أدّت إلى زيادة في الاستهلاك وبالتالي بات الفرد يقتطع جزءاً أكبر من دخله للاستهلاك، وبما أن لبنان اقتصاد مُستَورِد أدّى ذلك إلى ارتفاع في الاستيراد. بالتوازي، كانت الأجور المتضخّمة تستحوذ على حصّة أكبر من كلفة الإنتاج، وبالتالي ارتفعت أكلاف الإنتاج لتصبح المنتجات المحلية أقل تنافسية في الأسواق المحلية والخارجية، ما أسهم في قتل أي فرصة لنموّ التصدير بشكل يتناسب مع النمو في الاستيراد.
وبالإضافة إلى السياسة النقدية المتّبعة (تثبيت سعر الصرف ورفع القيمة الاسمية للأجور)، أسهمت السياسات التجارية (الاتفاقات التجارية مع أوروبا والدول العربية) في ضعف استهلاك المنتجات المحليّة. فالمنتجات المستوردة أصبحت أقل سعراً من مثيلاتها المنتجة في لبنان. وقد شملت الاتفاقات إلغاء الرسم الجمركي على عدد كبير من البضائع الآتية من الدول التي أقام معها لبنان اتفاقات تجارية، ليصبح المشهد على النحو الآتي: إنتاج لبناني مكلف بسبب ارتفاع كلفة العمل وعوامل أخرى، في مقابل منتجات خارجية كلفة إنتاجها منخفضة ولا تخضع لرسوم جمركية. النتيجة كانت اجتياح المنتجات المستوردة للسوق اللبنانية وضرب الإنتاج اللبناني. هكذا تسارع الاستيراد أيضاً.
بشكل عام، كان الميزان التجاري اللبناني يعاني أصلاً من عجز. لكن تثبيت سعر الصرف كان عاملاً محفزاً لتوسّع هذا العجز. صحيح أن هذه السياسة النقدية جعلت القوة الشرائية للبنانيين أكبر، وأسهمت في حياة أكثر رفاهية لهم، إلا أنها في الوقت عينه كانت تراكم خسائر ضخمة. وما العجز التراكمي في الميزان التجاري، الذي بلغ أكثر من 300 مليار دولار إلا دليل على ذلك. مع العلم أن اللبنانيين لم يستفيدوا من هذه الرفاهية بشكل متساوٍ، ففي حين أن المعدّل السنوي لنصيب الفرد من العجز التجاري كان نحو 2200 دولار للفرد، إلا أن الكثير من المقيمين استفادوا بأقل من هذا المعدّل بكثير. في المقابل استطاعت قلّة من المقيمين الاستفادة من هذه السياسة على شكل استهلاك للبضائع الفاخرة.