لا يملّ رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع من نفسه أو يؤاخذها أو يعاتبها أو يعفيها من سماع نكاته. يواصل تقديم العرض نفسه، فوق المسرح نفسه. خطاب عشوائي تجهل، بعد سماعه مراراً وتكراراً، لمن هو موجه أساساً وماذا يريد قائله فعلاً. لا يجد الرئيس سعد الحريري وزيراً أو قيادياً في حزبه متحمساً لتمثيله؛ يرسل نائب الضنية أحمد فتفت. لا الرئيس فؤاد السنيورة هنا ولا من يمثله. الوزير نهاد المشنوق مشغول.
أما زميله أشرف ريفي فيكلف أحد أبناء البيت المعرابيّ بتمثيله. تفهم ملل النائب سامي الجميل وعدم مشاركته، وعدم عثور الرئيس أمين الجميل على من يمثله غير نائبه شاكر عون. النائب دوري شمعون الذي اعتاد الصلاة سنوياً إلى جانب جعجع على نية شقيقه داني شمعون، يكتفي بإرسال ممثل عنه هذا العام. حتى الوزير بطرس حرب والوزيران السابقان مروان حمادة والياس المر انشغلا هذا العام. يغيب خالد ضاهر ومعين المرعبي ومحمد كبارة وسيرج طورسركيسيان. لا أحد يقبض ترشيح جعجع الرئاسي جدّياً سوى النائبين هادي حبيش وفؤاد السعد. تحضر الوجوه أنفسها، من دون العونيين وحلفائهم، والاشتراكيين والنواب الفائزين بأصواتهم، والكتائبيين ولفيف المطارنة والرهبان، وكل الرافضين لمنطق «فليحكم الإخوان» العشائريّ الانتقاميّ. حتى نائب «الإخوان» المعنيين بالشعار، عماد الحوت، غاب لعدم إحراج جعجع، ربما، في ظل التباعد السعودي ـــ القطري. وحدهم نواب زحلة، يتلفتون باضطراب بحثاً عن أحد يعرفهم أو يد تلوّح لهم. أما «وجه سحارة» الوزراء السابقين فوديع الخازن وروجيه ديب.
بعد نقل رؤساء الأحزاب المسيحية مقار أحزابهم إلى منازلهم وعقدهم اجتماعات المكاتب السياسية (في حال وجدت) في صالوناتهم ومطابخهم أحياناً، ها هو جعجع ينقل الاحتفالات أيضاً إلى منزله. يتغير الديكور قليلاً بين عام وآخر. لم يكن بشير الجميل يرفض، على غرار ميشال عون، أن ينتخب غيره رئيساً. لا أبداً، هو كان متأهباً فقط لتلقين من تسوّل له نفسه الترشح ضده لرئاسة الجمهورية درساً لا ينساه، في حال بقي حياً. لكن صورة الجميل هنا ليست عنواناً لبحث جدي في إيجابيات تجربته وسلبياتها، سواء حياً حين استباح قتل الخصوم المسيحيين بحجة توحيد البندقية، أو بعد اغتياله حين تحولت خطاباته الانفعالية والغرائزية إلى ثوابت مسيحية. لا يتجاوز «التلطيش» الجعجعي الناعم لـ«داعش» حدود المسموح به في الخطاب السعودي المناوئ، في العلن فقط، للداعشية. «إبداع» الاحتفال خروج داعش «بسحر ساحر وقدرة أسد». يستحق كتبة الخطاب لجعجع تنويهاً. خلاصة الخطاب أن المصلحة السعودية وأمن العشيرة الحاكمة لا يزالان فوق كل اعتبار. محاطاً بشانت جنجنيان وأمين وهبة وباسم الشاب، يريد جعجع أن يقاتل كي لا يسقط. لم تستطع ابنة أحد الشهداء كظم غيظها من رؤية صورة والدها بين من يحتفل جعجع باستشهادهم؛ صرخت مستهجنة أول من أمس قائلة إن جعجع هو من أمر بقتل والدها. حالها في ذلك من حال تريسي شمعون وعشرات آخرين ممن يرون صور آبائهم الذين قتلوا بـ«نيران صديقة» في احتفالات جعجع. يتكرر هذا أيضاً كل عام. لا شيء يوحي بالأمل هنا. يلفت بائع السندويشات في سوق بكفيا إلى «قواسم مشتركة بين جعجع وداعش: تفجير الكنائس والغدر بالجيش والسعي الدموي لتوحيد البندقية في مناطق نفوذهما».
لو كان الأمر بيد الخطيب القواتي لوجب توضيب الحقائب والمغادرة فوراً أو الالتحاق بسرايا المقاومة. لكن، قبل يوم واحد من الإطلالة الجعجعية، كانت الفنانة جوليا بطرس تحيّي حفلتها الأولى في مسرح يطل على خليج جونية. سبقها إلى مقاعد الجمهور قائد فوج المغاوير العميد شامل روكز على وقع التصفيق والهتافات، التي ارتفعت أكثر مع دخول رئيس تكتل التغيير والإصلاح العماد ميشال عون.

لو كان الأمر بيد
الخطيب القواتي لوجب المغادرة أو الالتحاق بسرايا المقاومة

حافظا طوال «العرس» على وجهة شبه ثابتة لنظرهما، محاولين السيطرة على انفعالهما انسجاماً مع حماسة الجمهور. إلا أن طيفهما مع ذلك لم يفارق فضاء الصالة ولو للحظة. ما كادت جوليا تقول إن «بيتي هنا أرضي هنا، السهل البحر النهر لنا»، حتى بدا واضحاً أن الحالة تتجاوز الأمل؛ بدت الصالة كأنها تردد بإيمان صلاة ما: «الأرض لنا وسنبقى». يدأب أحد الوزراء السابقين على القول إن الفارق بين عون وجعجع أشبه بالفارق بين القاتل والمقاتل، والمرحلة تحتاج في رأيه الى مقاتل. يشير زميله إلى تأكيد الأيام القليلة الماضية أن رهان حزب الله على محاصرة «داعش» عبر تيار المستقبل، ممثلاً بوزيري الداخلية نهاد المشنوق والعدل أشرف ريفي، لم يصب. وثبت لمختلف المطلعين، غداة زيارة الرئيس سعد الحريري الأخيرة لبيروت وتجميد السعودية هباتها لتسليح الجيش، أن الحريري لا يزال في الضفة الأخرى. كما سقط نهائياً، في الوقت نفسه، رهان الحزب على قائد الجيش العماد جان قهوجي لتحقيق الهدف نفسه. فيما لا يمكن الحزب، لأسباب مذهبية ومناطقية لها تبعاتها على كامل الجغرافيا اللبنانية، أن يفعل أكثر مما يفعله منذ أشهر على هذا الصعيد. ولا يوجد، بالتالي، سوى شخص واحد قادر اليوم على اتخاذ قرار مواجهة «داعش» وإخوته، والبدء عملياً بما كان يفترض بالدولة أن تبدأ به قبل عامين. شخص يجاهر علانية، بعيداً عن فصاحة جعجع وحذر حزب الله وحسابات الحريري، بوجوب وضع حد للتهديد الصحراويّ. فكما كان يستحيل على أحد غير عون أن يحمل يوماً ما مشروع الإصلاح والتغيير؛ لا أحد غيره قادر اليوم على حمل مشروع محاربة الإرهاب. باتت استعادة حقوق المسيحيين وتحقيق الشراكة واستخراج النفط وغيرها مجرد عناوين من الماضي في برنامج عون الرئاسي؛ عون اليوم هو الأمل الوحيد بمحاربة لبنانية جدية للإرهاب.