بين الصغير والكبير، بساط طويل من العمر، بساط طويل من اللغة التي تُشبه الماء والجمر معاً. الصغير ينقش آثار قدميه ليدخل إلى الحياة، والكبير ينقش آثار عبقريته ليعبر الخلود. الصغير يختبر أوتار الحروف ليولّد من البوح صدى، والكبير يعرج بها إلى ملكوت الجمال والحلم ويدعها تتهادى في سرّ الغيب. الصغير يتكهّن الكلمات بهمسٍ وخفر، والكبير يجلس على مملكة التعبير والنبوءة. ما زلتُ أستاذ طلال، ما زلتُ صغيراً. وحيث تكون، تكون كبيراً.عميقاً تمتد «السفير» في نسغ دمي، «السفير» المولودة من ماء الأقحوان، وعجينة الشعر، وإكسير الحرية. المجلاةُ بالنضال على عين الشمس، ترسم بالشهادة لون الحقيقة وتضيء القمر بزيت المداد وتصدح ملء صباحاتنا بصوت الذين لا صوت لهم.
هكذا هي، تُشبه الفجر الذي يهدم الليل البهيم، والفجر الذي يرمي الضوء في وجوهنا لنرى الطريق. والفجر الذي يلتهم هجوعنا في المخادع ويستنهض هممنا لنتلمّس الوجود البهي.
لم أعرف «السفير» إلا أميرة الصحف، تقتحم الخطر، تتحدى عوائق الصمت والهزيمة، تريد أن تمسك بالزمن، تشكّله بأنفاسها ليسع ثمالة آمالنا بالحرية والعدالة والانتصار.
لم أعرف «السفير»إلا وهي تحمل في سطورها عيون الفقراء، وعرقهم الذي يبوح بإرث الجراح وكدّ التعب، والذين يضعون الصلاة على جباههم والمسك بأضلاعهم ويدلفون خلف التلال ليملأوا لنا جرار الشهادة بالكرامة.
لم أعرف «السفير» إلا المصباح في عتمة العرب وغفواتهم، وإلا الراية الملتحمة بميادين الانتفاضات والثورات، وإلا القلم (الصاحي) في وجه عبّاد السُّدى وشيوخ الطريقة النفطية، الذين يبيعون أقمارنا وقمحنا والتين والزيتون ليشتروا به تيجاناً تنمو فيها الطحالب، وحانات يحيون فيها ألف ليلة وليلة.
وفلسطين التي أعرف أنّ محلها منها محل القطب من الرحى، تدخل حقل الكلمات المنذورة المفتوحة على صبح قريب. ويا زهرة المدائن، يا قدس، التي ترين هول القبضات المنتصبة من المحيط إلى الخليج، إننا قادمون، على مدّ النظر والقلوب، قادمون لنقدّس ونسبّح ونضرم فيك كل أشواقنا.
والمقاومة، التي رغم انشغال البعض بإدخال الجمل في سَمِّ الخِيَاط، والبعض الآخر في ترتيب وتبويب وتكعيب الاستدارات، ورغم صبوات الغلمان التي يُرجى منها تصحيح قواعد الاشتباك، هي نور على نور. تكتب «السفير»في البدء والختام وبلا مزيد كلفة (من وثق بماء لم يظمأ)... فأين تذهبون.
أستاذ طلال، يا سعادة السفير، ويا سفير السعادة... فقد منحتنا، وعلى ما يزيد من عقود أربعة، السعادة في أن نحلم، وأن يكون لنا غد، وأن يكون لنا صوت، ويراع، وهوية، وأرض مترامية بلا فواصل جغرافية وأيديولوجية وطائفية وإثنية. وقبل ذلك وبعدُ، لقد منحتنا كلماتك المنسوجة بخميرة الدم والعطاء، والوصل والغضب، والفكر الخلّاق الذي يريد أن يؤسّس الحياة على قواعد الحق والعدل والمحبة. لقد ظفرت بكلماتك في أشد الأيام جفافاً وجنوناً. وكنتَ على ما أذكر «على الطريق»، على الطريق إلينا، تجيئنا كل يوم عند الصباح، تواسينا إن كنا في مصاب، وتوجّهنا عندما تحيط بنا الهواجس، وتملؤنا عزيمة وثباتاً وحماساً إن كان الموقف سلاحاً، وتحصّننا بالأفكار والرؤية مخافة أن تضيع أقدامنا في زهو الغرور. عندما اهتديتُ إلى لغتك النضيجة المشتهاة، كنتُ في الوقت نفسه أقرأ تولستوي الذي أقحمني في دروس السلم والحرب. وحنا مينه الذي رماني في البحر، وعبد الرحمن منيف الذي فتح عينَيّ على دهشة الصحراء. وغسان كنفاني الذي حملني إلى صعيد فلسطين وحكاياها، ومحمود درويش الذي طاف بها على رياح الشعر وقال لنا جميعاً إنّ على هذه الأرض ما يستحق الحياة. وعندما وصلتُ إلى نسمة، نسمة الذي لم تُعرف له مهنة إلا الحب، أخذني طلال سلمان إلى ما وراء المعنى والصورة واللون. وقلتُ في سري من أين يأتي هذا الرجل بكلماته! كيف يستنبتها من مخابئ تربتها! كيف تتكاثر اللغة وتتوهّج وتشتعل بين أنامله! كيف يغور في ذواتنا ويقرأ أرواحنا ويرفع إلى العلن احتجاجاً من أنّ السياسة لا تمارس من دون حب، وأنّ الدين لا يختمر بالإيمان من دون حب، وأنّ الحرية لا تُعاش نضالاً من دون حب. وقلت: إنّ هذا الرجل لا بدّ وقد بلغ من الحب عتيّاً، حتى استطاع أن يرصف خيالنا منمنماتٍ جميلة تنبّهنا إلى أنّ الحب بلاغ، وخيارٌ واعٍ وإيقاع ثائر، وبحثٌ متواصل في الذات، وسيرورة اكتشاف تتعشّق الآخر في آيات حُسْنِه. والنتيجة، مادة تقريب وتشبيك وجمع بين القضية والحب. بين الوطن، الأرض، الشعب، الثورة، وبين الحب. بين أن يكون الإنسان صاحب موقف في السياسة حتى الشهادة وصاحب موقف في الحب حتى الفناءِ والشهود. ومذَّاك وأنا أنتظره كل يوم جمعة لأدخل مستودع أسراره الجميل!
إنّ الصحافة رسالة، وعندما تكفّ أن تكونها، تتحوّل إلى وظيفة فتجارة، وعندها تسقط في المصانعة والتبخير أو التحريض. إنّ الصحافة سؤال مستمر، وكشف دائم عن الحق، لأنه أوسع الأشياء في التواصف وأضيقها في التناصف كما يقول أمير البيان. إنّ الصحافة التزام ومسؤولية، ابنة الهمّ الاجتماعي والثقافي والسياسي والإنساني، القادرة على جعلنا أكثر إدراكاً وإحساساً بأنفسنا وبما حولنا. إنّ الصحافة سجلّ ومرآة يرى فيها الجميع أسماءهم وصورهم، أخطاءهم ونجاحاتهم، هزائمهم وانتصاراتهم. إنّ الصحافة موقف. لأنها الحارسة المؤتمنة على صوت الناس، صوت الذين لا صوت لهم.
شكراً طلال سلمان الذي أتاح لنا أن نقرأ «السفير» حتى إذا متنا نموت أحراراً واقفين!