ما الذي يدفع عمالقة المال والأعمال من «جي بي مورغان» و«سيتي غروب» و«مورغان ستانلي» وصندوق «كوانتوم» للتحوّط الخاص بجورج سورس، وكثيرين من أمثالهم، للاستثمار والتدافع لإقراض أفقر فقراء العالم؟ بالأحرى كيف يستطيعون استخراج فائض قيمة يستحق عناء إنشاء سلسلة من المؤسسات وإرسال مندوبين إلى أقاصي الأرض، وإلى قرى نائية لمجتمعات بالكاد تؤمّن رغيفها؟بحسب تقرير نشرته وكالة «بلومبرغ»، بلغ حجم قطاع القروض الصغيرة 160 مليار دولار في عام 2020 الذي شهد انتكاسة اقتصادية عالمية بفعل تفشّي «كوفيد 19»، وأنّ عدداً من هذه المؤسسات في جنوب شرق آسيا وأميركا اللاتينية (حيث تتركّز استثمارات التمويل الأصغر) حقّقت أرباحاً هائلة تفوق 25%، ولكن كيف؟ البداية تكون من فهم البنية الطبقية للدَّين. فحتى أشهر قليلة مضت، كان بإمكان أصحاب المليارات اقتراض المزيد من المليارات بفائدة شبه معدومة، ثمّ استثمارها في السندات التي تعود عليهم بفائدة أعلى، وهكذا يستطيع هؤلاء الأثرياء خلق المال من المال بدون أيّ مخاطرة أو جهد أو إنتاج، بينما يعاني المهمَّشون اقتصادياً كما دولهم المفقَّرة من انحياز مالي ضدّهم، يجبر هؤلاء على دفع فوائد متراكمة هائلة، تحت حجة عدم قدرتهم على تقديم ضمانات للسداد. حين مُنِح محمد يونس جائزة نوبل للسلام لابتكاره فكرة «التمويل الأصغر»، بشّر العالم بنهاية حاسمة وعملية للفقر، من داخل قوانين السوق، بعيداً عن «الصدقات والمعونات والإحسان»، وكانت الأمم المتحدة قد أعلنت العام السابق (2005) عام «القرض الأصغر»، لكن تبيّن أن حربها على الفقر في نهاية الأمر حربٌ على الفقراء.
بحسب مجموعة من الباحثين في كتاب حول أزمة هذا القطاع بعنوان The crises of microcredit، هذه المؤسسات بشكل عام لا تبحث عن أصحاب المشاريع الذين يحتاجون إلى تمويل كما تدّعي، بل إنّها تموّل غالباً أفراداً معدَمين في مجتمعات مهمَّشة، حيث لا أسواق ولا دورة اقتصادية، رغم علمهم بأنّ هؤلاء غير قادرين على سداد القروض (عدا فوائدها). كما أنّ هذه المؤسسات لا تسعى لأوسع شمولية ممكنة للفقراء في عالم التمويل كما تدّعي أيضاً، بل تستهدف مجتمعات بعينها بشكل مبالغ فيه. وما يحصل عادةً هو أنّ المقترِض يفشل في تسديد الدفعات، وتحت الضغط والتهديد من قبل عاملي هذه المؤسسات (المالية وغير الحكومية)، يقترض مجبَراً من المؤسسة المجاورة بنسبة فائدة أعلى (تم تسجيل معدلات فائدة بين 60و120% في الهند وسريلانكا والأردن)، ويعيد الكرّة مرات ومرات، حتى تصبح قيمة الدفعات أعلى من أصل القرض ذاته، ويصبح تحت رحمة مجموعة لا ترحم من الدائنين تتناهشه، ويُجبَر على سداد القيمة من لحمه، كما فعل تاجر البندقية، حرفياً في بعض الأحيان!
لعقدين، حصدت مجزرة القطن حوالي 300 ألف مزارع هندي انتحروا بسبب الأزمة الزراعية الحادّة التي تسبَّبت بها بذور القطن الأميركية المعدَّلة جينياً، التي بيعت بخلاف القانون الهندي. في خضمّ هذه الأزمة، تفشّت مؤسّسات التمويل الأصغر في المجتمعات الأكثر فقراً، ومنها أندرا برادش جنوب الهند، وأدّت ممارسات المقرِضين العنيفة إلى دفع الكثيرين للانتحار. وبحسب موقع down to earth الهندي، فإنّ العاملين في المنظّمات غير الحكومية والمؤسّسات المالية شجّعوا المزارعين على الانتحار لتسديد ديونهم بقيمة التأمين، كما سجّلت حالات تحريض وتعنيف من قبل هؤلاء العاملين لبيع المزارعين لأطفالهم أو تشغيل النساء في الدعارة لتسديد القروض. حالات الانتحار لم تقتصر على الهند، إلا أنّ قضية أندرا برادش قبل حوالي عقد من الزمن أثارت الكثير من الضجيج الإعلامي والسياسي محلياً وعالمياً، وحرّضت السلطات على التحرّك ووضع حدود قانونية لقدرة المنظمات غير الحكومية على استغلال الفقراء، الأمر الذي تسبَّب بإغلاق العديد منها، إذ إنّ الاستغلال هو منبع الربح.
في بنغلادش، مسقط رأس «التمويل الأصغر»، هناك دراسات تؤكّد وجود علاقة وثيقة بين هذا النوع من التمويل وتجارة الأعضاء التي يتقاضى فيها المتبرّع جزءاً بسيطاً من المبلغ الزهيد الذي وُعِد به مقابل لحمه، المشكلة الكبرى أنّ المتبرّع عادة ما يكون مُعيل الأسرة المضطر بعد بيع كل ممتلكاته وأدوات إنتاجه، إلى بيع أعضائه، الأمر الذي يترك الكثيرين منهم عاجزين عن العمل وهكذا تغرق أسر بأكملها.
في الأردن والمغرب وعدد قليل من الدول حيث لا يزال القانون يقضي بالسجن على المتخلّفين عن الدّين، فإنّ مشاريع «تمكين» المرأة تنتهي بنهاية مأساوية بشكل ساخر ومؤلم. بحسب تقرير لوكالة بلومبرغ، أكثر من 23 ألف امرأة أردنية كُنَّ مطلوبات من قبل الشرطة لتخلفهن عن دفع قروض لا تتجاوز قيمة كلٍّ منها 1400 دولار. وبحسب تقرير آخر لـ«نيويورك تايمز»، النهاية غير السعيدة لا تتوقّف هنا، لأنّ السجن لا يعفي السجينة من دفع الدين، كما أنّ عدداً كبيراً من الأزواج يطلقون النسوة اللواتي تحمّلن عبء الدين لإعالة أسرهن، الأمر الذي يؤدّي إلى انهيار الكثير من هذه الأسر.
في كمبوديا أيضاً كارثة من نوع آخر، حيث تُستخدَم هذه القروض لتجريد مجتمعات بأكملها من أراضيها. هذا الاستهداف للمزارعين وأراضيهم يقع في قلب الثورة الزراعية الصناعية الغربية، التي تعمل بشكل ممنهج على الاستيلاء على الأراضي الخصبة في دول الجنوب. فليس صدفة أنّ المنظمات الدولية الكبرى التي تعمل مع شركات البذور المعدَّلة جينياً، والطاقة الخضراء، والزراعة الصناعية، هي الشريك الأهم لمؤسّسات الإقراض هذه. وكل هذا ليس بعيداً عن الاستعمار الإحلالي الحديث، ففي أستراليا ونيوزيلندا، وبالرغم من التاريخ الأسود الذي أصبح معروفاً حول هذا القطاع، هناك بحث يشجّع على بث هذا النوع من التمويل على ما تبقّى من شعوب أصلية، أصبحت تهدِّد رفاه المزارع العضوية المنتشرة بالقرب منهم، وذلك لتمسّك هذه الشعوب بما تبقّى من أرضها ومياهها. وفي ظل هذا التنافس، يقترح الباحثون ضخ المال تحت اسم القروض، ليتمكّن «السكان الأصليون» من شراء ما ينقصهم، نتيجة لتشاركهم مياههم مع مزارع البيض الذين يستعمرون أرضهم.
هناك دراسات تؤكّد وجود علاقة وثيقة بين التمويل الأصغر وتجارة الأعضاء


وفي فلسطين المسألة جزء من عملية «خلق الفلسطيني الجديد»، فالتمويل الأصغر هو الابن الشرعي لمشروع «الطريق الثالث» الذي جاء به سلام فياض من صندوق النقد الدولي، وهو يقضي بالتخلي عن طريق المقاومة والسلاح والكفّ عن وهم الطريق السياسي لأوسلو وإنشاء الدولة، وعوضاً عن كل ذلك، لنهتم ببناء المؤسسات وإنعاش الاقتصاد في الفراغ. تزامن هذا المشروع مع خطة وزير الخارجية الأميركي الأسبق جون كيري ومشروع «السلام الاقتصادي» الخاص بنتنياهو، وما ناب الفلسطينيين هو توريط أكبر شريحة من الشعب في قروض متعدّدة أغلبها استهلاكية، والهدف استخدام هذه القروض كأداة للضبط الاجتماعي السياسي كما يقول الباحث طارق دعنا، أي إشغال أكبر شريحة ممكنة وتوريطها في فخّ الدين، والخلاص الفردي وسحب فكرة المقاومة أو حتى الحقوق من التداول. ويبدو أنّ التوظيف السياسي هو الهدف الرئيسي لهذه المشاريع في لبنان، فمن مجابهة «القرض الحسن»، إلى خلق شبكة اجتماعية مرتبطة اقتصادياً بمؤسسات ذات طابع مالي ظاهر، وتوظيف سياسي مبطَّن، قد يكون هذا هو الهدف النهائي لهذه القروض في لبنان، فلا ننسى أنّ محمد يونس الأب الروحي والمؤسّس لظاهرة القروض الصغيرة، تحول إلى لاعب سياسي في نهاية الأمر، معتمداً على شبكة الفقراء الواسعة التي نجح في استغلالها عبر عقود، وعبر عمله لشبكة خارجية من صقور الليبرالية الغربية، ولولا طموحاته السياسية لما خرجت فضائح اختلاس الملايين من أموال الفقراء، ولا دور «بنك غرامين» في الإتجار بأعضائهم، ولما اضطر الرجل إلى الهروب إلى بريطانيا حيث يتجمّع أثرى أثرياء الدول المنهوبة، وينعمون بأرفع خدمات السرّية المصرفية.



بورتريه

محمد يونس: مفترس الفقراء
صُمّم «الائتمان الأصغر» خصيصاً كخيار «خيري» لتمكين الفقراء من الحصول على المال، وقد انتشر خلال التسعينيات عن طريق نموذج طبّقه محمد يونس، مهندس التمويل الأصغر و«مصرفيّ الفقراء». بتأسيسه بنك غرامين رسمياً عام 1983 في بنغلادش، أنشأ يونس أول مؤسسة مختصة بالتمويل الأصغر.
كمتدرّب في جامعة فاندربيلت، لعب يونس دوره كخبير في التمويل الدولي. وفي السياق، كان يبحث عن أسواق جديدة في الضواحي الفقيرة. والمخاوف التي أعربت عنها طبقة المصرفيين الدوليين تشكّك في ما إذا كان الاستثمار غير النقدي استراتيجية مربحة حقاً. فقد كانت هناك عوائق تحول دون قدرة البنوك على الوصول إلى فقراء المناطق الريفية بسبب افتقارهم إلى الحسابات المصرفية. مع ذلك، ابتكار مصرف غرامين كان تقديم تسهيلات لفقراء الريف والجنوب العالمي كمجمع استثماري جديد للبنوك.


حصل مصرف غرامين على منح من «مؤسسة فورد»، وسهّل بشكل واسع انخراط البنغلادشيين الريفيين في النظام الرأسمالي العالمي والعولمة في ظلّ غياب بنية تحتية مالية لدولة قوية في أزمة ما بعد السبعينيات النيوليبرالية، ونشوء بنغلادش المقسّمة والحديثة العهد عام 1971. البداية كانت بيع الائتمان الأصغر للمزارعين، ثم تمدّد ليطاول باقي فقراء بنغلادش، ولتتّسع قاعدة عملائه إلى 85 ألف زبون كبداية. واليوم يتباهى البنك الدولي، الداعم والمروّج والموسّع الأساسي لنظام التمويل الأصغر، بأنّه أصبح في متناول 13 مليون فقير في بنغلادش. كما دخل مصرف غرامين سوقاً مربحة جديدة مع النساء الفقيرات، وقد أثبت هذا المفهوم نجاحه الواسع في تطوير الوكالات والنقود، على حساب المقترضين الفقراء. 
بإغواء النساء والمزارعين الفقراء بالقروض، أخذ مصرف غرامين القروض إلى أعلى مستويات الفائدة، ووصل بعضها إلى 48 و60%. ومن المثير للدهشة، في السياق ذاته، أنّ مخطّط إقراض افتراسي موجهاً في الواقع إلى الجنوب العالمي الفقير سجّل معدل سداد ممتازاً وصل إلى 90%. لكن ذلك تحقق بمستوى عالٍ من التضييق والإجبار والتكتيكات التي استخدمها البنك لإجبار المقترضين الفقراء على السداد. وفي كثير من الأحيان، دفعهم نحو مزيد من الفقر. بمعدلات الفائدة العالية المطالبين بها، سحب المقترضون اليائسون قروضاً لدفع تكاليف القرض المرتفعة جداً، ووجدوا أنفسهم مجبرين، إن لم يكونوا مكرَهين، على سداد القروض والفوائد المضاعفة عن تلك التي دفعوا من أجلها. وبلغ الإكراه حدّ العنف الصريح، إذ أُجبرت النساء على ممارسة الدعارة، حتى إنّ موظفي البنك شجّعوا المقترضين على بيع أطفالهم لسداد قروضهم وفقاً لتقرير لـ«اللجنة من أجل إلغاء الديون غير المشروعة».