في العدد الخاص الثاني لدورية «فرنسا الحرة» الصادرة في نيويورك، كُرّست الطبعة للحديث عن سياسة فرنسا الاستعمارية في أفريقيا، وأشادت بإتقان فرنسا فن «التماهي» Assimilation الذي فرضته على المستعمرات بنسب متفاوتة ومدروسة، لضمان انغماس الشعوب المستعمرة في خدمة الأم الحنون حتى الموت. فقد تباهت الطبعة، مثلاً، بأن زعيم قبائل الموسي البالغ عددها مليون نسمة في غرب أفريقيا رفض وتابعيه الخضوع لحكومة فيشي ووصل به الأمر الى الانتحار وفاءً لفرنسا الحرة، وإلزام ابنه ووريثه بأن يعداه بأن لا يتسلّما السلطة قبل أن يعود «الفرنسيون الحقيقيون». كما تذكر المجلة أن فرنسا حشدت جيشاً من الجنود المشاة الهاربين من غرب أفريقيا تحت حكم فيشي إلى أفريقيا الاستوائية للانضمام إلى جيش فرنسا الحرة. هنا تنتهي قصة هؤلاء في الدورية، من دون أي أخبار عن مصيرهم النهائي. فالاستعمار يعرف كيف وأين ينهي الرواية حيث يظهر في قمة المجد والروعة.
أنقر على الرسم البياني لتكبيره

ما حدث هو أن فرنسا استخدمت هؤلاء كوقود بشري في الحرب العالمية الثانية. هناك قصة عن 1300 رجل منهم أُسروا في معتقلات النازيين، وبعدما تحرّروا من النازيين وجدوا أنفسهم في معتقلات حضّرتها لهم الأم الحنون في دكار بدلاً من المكافآت والعرفان. وقد تكون الصدمة وخيبة الأمل هما ما قادهم للتمرد عام 1944، ولكنّ الغدر لم يكتمل إلا عندما ردّ الجنود الفرنسيون على التمرد بارتكاب مجزرة بحقهم راح ضحيتها أكثر من مئة رجل.
فرنسا الحرة «رمز الإباء والمقاومة في وجه النازية، أيقونة التحرر والنضال» لم تكن لتوجد لولا ثروات المستعمرات ودماء المستعمَرين. في أحلك ساعاتها أكلت الأم الحنون أولادها بعد أن استخدمتهم لاستعادة السلطة في فرنسا. وما فعلته بالجنود كرّرته في الاقتصاد. فقد أنشئ الصندوق المركزي لفرنسا الحرة في المنفى عام 1941. ورغم طباعتها لعملتها في بريطانيا، فإن الذهب الذي دعم هذا الفرنك جاء من المستعمرات خصوصاً الأفريقية. مع ذلك، حرصت فرنسا على دفع ديونها للحلفاء فقط بينما استمرت في نهب المستعمرات. وعلاوة على ذلك، لم تكن تريد إرسال أي «مساعدات» إلى أفريقيا في البداية لولا ضغط الأميركيين خوفاً من انتشار الشيوعية في القارة الأفريقية. هكذا تحول الصندوق المركزي لفرنسا الحرة إلى الصندوق المركزي لفرنسا ما وراء البحار، وترأسه العديد من كوادر «فرنسا الحرة».
في البداية عمل الصندوق كممثل حصة الدولة في مشاريع اقتصادية مشتركة مع القطاع الخاص في المستعمرات من خلال قروض طويلة الأمد وفّرها لهذه المشاريع، مولّداً بذلك الجيل الأول من بنوك التنمية في المستعمرات الأفريقية التابعة لفرنسا. وبحسب فرانسوا بيكمينت المسؤول عن مشروع التأريخ في الوكالة الفرنسية للتنمية «AFD»، فإن المرحلة الأولى من عمل صندوق ما وراء البحار كان ضمان الحفاظ على امتيازات فرنسا الاستعمارية بالرغم من الاستقلال الصوري، الى جانب القواعد العسكرية والعمال الإداريين.

استطاعت مالي إخراج أهم قاعدة لفرنسا في الإقليم (أ ف ب)

في هذه المرحلة أسّس الصندوق لأكبر جريمة بحق المستعمرات الأفريقية، إذ إنه كان مسؤولاً عن إصدار الفرنك الأفريقي، الذي ضمن إرسال الدول الأفريقية 65% من احتياطات تبادلاتها الأجنبية إلى الخزينة الفرنسية وتحكم فرنسا بمالية هذه الدول. بحسب الباحث إيان تايلور، فإن فرنسا تعيد استخدام هذه الاحتياطات كمساعدات (في غالبيتها قروض بفائدة تعود على فرنسا بالربح) للدول نفسها وتفرض بهذا سلطتها على المنطقة، فلا تعرف كل دولة أفريقية كم تمتلك من المال في الخزينة الفرنسية.
في مجال الشفافية واستغلال السرية المصرفية يبدو الفرنسيون محترفين إلى الحد الذي يجعل رياض سلامة سيدو كمبتدئ. هذا الترتيب استنزف المستعمرات السابقة بينما خزّنت فرنسا احتياطات الذهب الأفريقي لدعم اقتصادها من خلال هذه «النصبة» التي لولاها لكانت فرنسا من دول العالم الثالث باعتراف جاك شيراك نفسه.
آلية إرسال المساعدات مقابل الحفاظ على المصالح الفرنسية لم تكن تبادلاً عادلاً بأيّ حال من الأحوال، وبالتالي لم تكن خياراً عقلانياً لأي وطني في هذه البلاد، الأمر الذي أدى إلى الكثير من الاغتيالات والانقلابات العسكرية على القادة الوطنيين والكثير من صفقات السلاح. كما أدى بطبيعة الحال إلى إنشاء شبكة من الحكام والنخبة الأفريقية الفاسدة المرتبطة بالسلطات الفرنسية والرؤساء الفرنسيين ومستشاريهم المسؤولين عن الملف الأفريقي. كان يدعى المستشار الأساسي من هؤلاء بـ«المونسينيور أفريك»، وأول وأشهر هؤلاء جاك فوكار وشبكته الشهيرة التي أدارها بشكل مباشر من أصحاب مصالح وحكام دول والكثير من المخبرين والمسؤولين الاستخباريين.
مسألة الشبكة هذه تميز علاقة فرنسا بمستعمراتها عن بقية القوى الغربية بحسب كتاب بحثي حول تطور سياسة المساعدات الفرنسية والبريطانية للكاتب غوردون كومينغ. فهي شبكة بمعنى أنها تعتمد على المصالح والشخصانية وتبتعد كل البعد عن آليات اتخاذ القرار الصارمة والمؤسسية. مثلاً حين أسّس ديغول عام 1958 وزارة الأمانة العامة للشؤون الأفريقية والملقية وضع مكتبها داخل الأليزيه تأكيداً على أنها تدار بشكل مباشر وشبه حصري من قبل الرئيس الفرنسي. هذا الترتيب صعّب على الحكومة والبرلمان والأحزاب التدخل والإشراف على السياسات والقرارات في ما يخص المستعمرات، فهذه العلاقة امتياز رئاسي محفوظ للرؤساء للتحكم بهذه الشبكة وما تضمّه من رجال أعمال ودين وحكام أفارقة ومساهمات سرية لهم في الحملات الانتخابية الفرنسية. أصبحت «فرانس - أفريك» تعبيراً يدل على علاقة يغلب عليها الفساد والمحسوبية والرشاوى ودعم الديكتاتوريات والنهب بسبب الفضائح العديدة التي نتجت عن هذه العلاقة. ورغم ذلك، أثبتت مع الوقت أنها عصية على التغيير في وجه تقلب الرئاسات وتغيّر الساحات الدولية والإقليمية إلى حد كبير.

مساعدات فرنسا الصادقة
مع بداية ولاية ماكرون الأولى، ووجه بطلبات للاعتذار والاعتراف بماضي فرنسا الاستعماري، فكان الرد هجومياً بالتصريح الذي أدلى به في قمة العشرين. بكل عجرفة ووقاحة صرّح بأن تخلّف أفريقيا مسألة ثقافية/حضارية متناسياً أن فرنسا حرصت على تخلف مستعمراتها السابقة لضمان مصالحها.
شبكة من المخبرين والحكام وأصحاب المصالح والنخبة الفاسدة تدار من الأليزيه مباشرة

أحد الأدلة على ذلك هو ما قامت به فرنسا عام 1958 بعد استفتاء المستعمرات الأفريقية (خوفاً من موجة ثورات التحرر)، وكانت غينيا الدولة الوحيدة التي صوّتت مع الاستقلال بشكل واضح. جاء رد الفعل الفرنسي صادقاً وشفافاً حول ما تعنيه فرنسا بالمساعدات والتنمية والتعاون، فقد أمر ديغول كل الموظفين الإداريين والإنسانيين بمغادرة البلاد فوراً بعد أن يأخذوا معهم كل ما يمكن من الممتلكات وبعد أن يدمروا كل ما تبقّى من منشآت بنتها فرنسا بمال الغينيين. أُحرقت الملفات والأوراق الرسمية وجُردت المكاتب من الفرش، حتى أبسط الأدوات أخذها الفرنسيون معهم، بما فيها «لمبات» الإضاءة التي سرقها أبناء عاصمة الأنوار معهم انتقاماً من الخيار الديمقراطي للشعب بالاستقلال. سوء النوايا لا يظهر بالانتقام وحده، فالهدف من حصر المساعدات بالمستعمرات السابقة كان واضحاً، إذ أشار جاك فوكار، مستشار ديغول للشؤون الأفريقية، على رئيسه بأن العائد السياسي لـ«المساعدات» في المستعمرات الأفريقية تحديداً سيكون أعظم بكثير من توزيعه على دول لا تهيمن عليها فرنسا. قد يكون هذا هو المكان المناسب لنقول إن لبنان، بعكس ما يظن كثيرون، لم يكن قط على قائمة الأولويات الفرنسية.



تنمية فرنسية بنكهة إسرائيلية
«يا يوم هازيكارون، نحن مدعوون لتذكر حروب اسرائيل العديدة، من تلك التي أدّت في 1948 إلى مولد دولة إسرائيل، ونخص الذكرى إلى كل أولئك الأبطال مهما كانت رتبهم الذين ضحوا بأنفسهم ليعيش شعب إسرائيل!»
مقتطف من مقال كتبه دوف زيراه في بداية عهده كرئيس للوكالة الفرنسية للتنمية «AFD» عام 2010. الرجل تونسي المولد فرنسي الجنسية وصهيوني من طراز الصقور. اليوم، بعد سنوات على استقالته، أصبح أكثر رصانة ويقدم كمحلل وكاتب مرجعي في الشؤون الصهيونية في دورية «أتلانتيكو»، وله مقابلة بعد معركة «سيف القدس» العام الماضي، يتحدث فيها ويحلل ما حصل سياسياً وعسكرياً واجتماعياً. هذا هو الرجل الذي ترأس وكالة التنمية الفرنسية لعدة سنوات حرجة في بداية «الربيع العربي»، وزار خلالها مصر والأردن مرات عدة مقدماً المنح والمساعدات السخية حتى تركه منصبه عام 2013.
مجيء الرجل إلى المنصب لم يكن خالياً من الجدل في فرنسا نفسها. إذ عُيّن فيه بعد صراع وإقالة عدد من مدراء الوكالة الذين تعهدوا بإنهاء سياسات «فرانس - أفريك» السيئة السمعة، و«إصلاح» المؤسسة. لم يناسب ذلك الرئيس الفرنسي نيكولا ساركوزي الذي وجد صعوبة في إيجاد رجل أهلاً لهذه الوظيفة، إلى أن اهتدى إلى ضالته من خلال توصية رجل الأعمال اللبناني الفرنسي الأفريقي روبير برجي، المتورط بدوره في فضائح فساد في قلب ما يسمى «فرانس - أفريك»، بأن دوف رجل تربطه علاقات ممتازة بقيادة الكاميرون وله اطلاع واسع على عالم الأعمال والصفقات في غرب أفريقيا. هكذا أصبح موظف الخزينة ورئيس البلدية السابق رئيساً للنسخة الفرنسية المصغرة من البنك الدولي.
في عهده أيضاً، كانت بدايات التحضير لحرب فرنسا على «الإرهاب» في أفريقيا وما فتحته من فرص وأسواق لعالم الأعمال والصناعة العسكرية الفرنسية. وكانت مبادرة الساحل، بجانبها العسكري، من أهم مداخل إسرائيل إلى أفريقيا وتشكل جانباً وازناً في العلاقات الفرنسية - الإسرائيلية حيث تتنافس صناعات الدولتين في المجال العسكري، وتتعاون في الوقت نفسه كما هو الأمر في برامج القيادة الرقمية الموحدة (سكوربيون) أو تدريب وتشغيل قوات النخبة (المرتزقة كما في الكاميرون)، كما يفصّل أحد مقالات حول اللوبي الإسرائيلي في فرنسا على موقع «أورينت 21»، وكما تذكر سلسلة مقالات لجهات فاعلة في هذا اللوبي وأهمها الـCRIF أو المجلس التمثيلي للمنظمات اليهودية في فرنسا والذي ترأسه أيضاً دوف زيراه عام 2010.


استثمار «AFD» في الإرهاب
في الوقت الذي كانت داعش تجتاح المنطقة وتعطي الذريعة لاحتلال أميركي جديد، كان السيناريو يتكرر بلكنة فرنسية في غرب أفريقيا وبعزف منفرد في مغامرة فرنسا الخاصة لاختراع الإرهاب ومحاربته.
في عشرية الساحل السوداء أتمت فرنسا صفقات سلاح بمئات ملايين الدولارات. بعض هذه الصفقات تم عن طريق مساعدات على شكل قروض بمعدلات فائدة مرتفعة استفادت فيها «وكالة التنمية الفرنسية» وشركاتها الفرعية وضاعفت من أرباحها. عشر سنوات من النهب باسم مكافحة الإرهاب والفوضى والدمار تحت غطاء المساعدات قطعت حبل المودة بين المتروبول وغرب القارة. ومع دخول الروس إلى الساحة وتعاظم دور الجزائر الإقليمي، فُتحت طاقة الفرج واستطاعت مالي إخراج أهم قاعدة لفرنسا في الإقليم بـ3000 جندي وإجبارها على تفكيكها بهدوء تحت جنح الظلام.
هربت فرنسا من مالي وهي تواجه مصيراً مشابهاً في دول أخرى في الإقليم. وعليه، فإن زيارة ماكرون الأخيرة إلى غرب أفريقيا تضمنت إعلان الأخير ضرورة التعاون العسكري بين فرنسا وبنين للحفاظ على مصالح بنين وأمنها، أو بالأحرى لاستخدامها قاعدة جديدة للحفاظ على مصالح فرنسا في الإقليم، وتحويلها رأس حربة عسكرية في وجه مالي وقوى التحرر الإقليمية الصاعدة.