عقب انفجار مرفأ بيروت في آب 2020 وزيارة الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بعد الانفجار بيومين، أعلن المانح الدولي أنّ المساعدات ستُسلَّم من المانحين إلى المواطنين اللبنانيين المتضرّرين بشكل مباشر عبر جمعيات مجتمع مدني، كون الثقة بالدولة اللبنانية غير متوافرة. استقالت حكومة حسان دياب بعدها بأيام، ومرّت أشهر أرسلت فيها دول العالم مساعدات إغاثية للمتضرّرين بإشراف الجيش اللبناني ومؤسسات أممية. لكن في كواليس تصريف الأعمال، كانت تُعَدّ التخريجة القانونية للالتفاف على مؤسسات الدولة بهدف إطلاق «مجلس إنماء وإعمار» بديل يتألّف من - وتديره - منظّمات مجتمع مدني باسم «إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار» (3RF).شكّلت كارثة انفجار مرفأ بيروت فرصة لبعض منظّمات المجتمع المدني لتأخذ دوراً من أدوار الدولة في زمن الأزمات والكوارث. آنذاك، لم يجرؤ أحد من المسؤولين في الدولة اللبنانية - بسبب وقع الصدمة والاتهامات بالفساد والإهمال - على الاعتراض على تجاوز مؤسسات الدولة وقوانينها حيال تقديم مانحين دوليين أموالاً لجهات غير حكومية لكي تصرفها في قطاعات ينصّ الدستور والقوانين اللبنانية على أنّ الدولة المركزية تمتلك حصرية تلقّيها والإشراف على صرفها لمواطنيها. وبالنسبة لما يسمّى «المجتمع الدولي»، مثّل الحدث - الكارثة فرصة لا تعوَّض لإجبار الدولة اللبنانية على تقبّل الوصفات النيوليبرالية التي تقوم على تقليص دور الدولة المركزية لصالح القطاع الخاص وما بات يُسمّى «القطاع الثالث»، أي قطاع المجتمع المدني. هذا المجتمع الذي كان قد اقترح تشكيل لجنة تكاد تكون مماثلة في الصلاحيات والأدوار قبل الانفجار بثمانية أشهر، في خطة مقترحة من عشر نقاط،. نصّت الفكرة على تلقي اللجنة المقترحة الأموال خارج إطار الدولة، والإشراف على تنفيذ البرامج والمشاريع، وتصميم آلية الإشراف على عملها من قبل المجتمع المدني نفسه. الموقّعون على الخطة المنشورة من قبل معهد كارنيغي هم أعضاء في منظمات المجتمع المدني مثل «كلنا إرادة» و«LIFE». جاء انفجار المرفأ ذريعة مثالية لتطبيق المقترح، ولكن كان على أحدهم أن يقونن عملية إدخال ملايين الدولارات إلى البلد بطريقة التفافية على وزارة المالية أو المصرف المركزي، بناءً على مخرج «قانوني». وبطبيعة الحال، بما أنّ الحكومات اللبنانية المتعاقبة لطالما حوت أعضاءً مستعدّين دائماً لتقديم مثل هكذا خدمات، وُجد في حكومة حسان دياب، المصرِّفة للأعمال، من قام بإيجاد حلّ قانوني للمسألة، ليبدأ ما سُمّي «إطار الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار - 3RF» عمله في لبنان.
اطّلعت «الأخبار» على مستند رسمي يثبت أنّ جهة في حكومة تصريف الأعمال طلبت من «هيئة التشريع والاستشارات» في 28 نيسان 2021، عبر الأمين العام لمجلس الوزراء، «إبداء الرأي في جواز تلقّي شركة كفالات ش.م.ل. مباشرةً هبة من البنك الدولي إنفاذاً لمشروع B5 Building Beirut Business Back And Better». وصل الكتاب من الأمانة العامة لمجلس الوزراء إلى المديرية العامة لوزارة العدل بتاريخ 4 أيار 2021، وجاء في رد هيئة التشريع والاستشارات، بعد تقديم المطالعة القانونية، أنّه «لا يكون من الجائز تقديم هبة البنك الدولي مباشرةً إلى شركة كفالات من دون إعمال أحكام المادة 7 من قانون الموازنة العامة للعام 2020 والمادة 52 من قانون المحاسبة العمومية، مع الإشارة إلى أنّه يبقى من الجائز أن يتم الاشتراط في معاهدة الهبة مع الدولة اللبنانية أن تكون الجهة المستفيدة من الهبة هي شركة كفالات». طبعاً رأي الهيئة لم يكن على خاطر طالبيه، فعاد مدير عام رئاسة مجلس الوزراء بتاريخ 8 تموز 2021 ليطلب في كتاب جديد من «هيئة التشريع والاستشارات» في وزارة العدل بأن تعود لتبدي رأيها القانوني بخصوص جواز تلقي شركة كفالات هبة البنك الدولي إنفاذاً لمشروع B5. في رد الهيئة على الطلب المكرَّر هناك إشارة إلى أنّ الأمانة العامة لمجلس الوزراء أفادت بأنّه «ليس هناك تدخّل للسلطة العامة لا في آلية تأسيس شركة كفالات ولا في فصول وكيفية تنظيمها وإدارتها»، بالإضافة إلى تضمين «إيضاحات» لرئيس مجلس إدارة شركة كفالات، وبناءً على ما قدّمته الأمانة العامة لمجلس الوزراء وإيضاحات رئيس كفالات ردّت الهيئة بالتالي: «حيث أنّه بالتالي مع التأكيد على كون شركة كفالات هي من قبيل شركات الاقتصاد المختلط، بيد أنّها ليست من عداد الأشخاص المتولّين إدارة مرفق ولا تكون بالتالي خاضعة لأحكام المادة 7 من قانون الموازنة العامة رقم 6 تاريخ 5/3/2020، ولا تكون بالتالي خاضعة في ما يتعلّق بقبول الهبات الواردة إليها لأحكام المادة 7 من قانون الموازنة رقم 6 تاريخ 5/3/2020، ويمكنها بالتالي تلقّي الهبة بشكل مباشر ومستقل عن الآلية المرسومة في المواد أعلاه، وذلك بغية صك الهبة وفق منطوقه».
هكذا مرّت صفقة شرعنة إطار «الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار – 3RF» الذي أرادته «الجهات الدولية»، وقد أفادت مصادر «الأخبار» بأنّ الجهة الحكومية التي عملت على قوننة قبول الهبة، عملت بتنسيق مباشر مع نجاة رشدي المنسقة الأممية للشؤون الإنسانية في لبنان (آنذاك)، حيث لعبت ديانا منعم، التي أصبحت لاحقاً المديرة التنفيذية لـ «كلنا إرادة» منذ 23 نيسان 2021، دوراً إلى جانب رشدي في إنجاز الملف. وتبيّن لاحقاً أنّ «الهيئة الرقابية المستقلّة» التي أُعلن عن تشكيلها ضمن إطار 3RF، ضمّت منعم في عضويتها، كممثلة عن منظّمة «كلنا إرادة»، إلى جانب ممثلَين عن كل من منظمة «مهارات» و«الجمعية اللبنانية للشفافية – لا فساد». ويذكر القائمون على إطار 3RF أن «الهيئة الرقابية المستقلّة» ستعمل على «ضمان الرقابة القوية والشفافية والمساءلة». أي أنّ مؤسسات الدولة لا تملك حق المساءلة والرقابة في حال ارتكاب مخالفات، فيما أعطِيَت الدولة دوراً «استشارياً» ضمن ما تُسمّى «المجموعة الاستشارية» للإطار. وكان القائمون على إطار 3RF قد أعلنوا منذ أواخر 2020 أنّ «المجتمع المدني اللبناني يلعب دوراً مهماً في تنفيذ الإطار 3RF على عدة مستويات: 1) بصفته طرفاً في المجموعة الاستشارية المكلّفة بالتوجيه الاستراتيجي وحوار السياسات وتنسيق المساعدات؛ 2) في هيئة الرقابة والمراقبة المسؤولة عن ضمان المراقبة القوية والشفافية والمساءلة المتبادلة؛ و 3) كمنفذين للبرامج». أمّا حول كيفية اختيار منظّمات المجتمع المدني التي تُعطى دوراً رقابياً وحصصاً من التمويل لتنفيذ مشاريع إعادة الإعمار، يقول القائمون على الإطار إنّهم «سيضمنون معايير محدَّدة بوضوح، ومراعاة اختيار منظّمات المجتمع المدني لمختلف المستويات من أجل ضمان الشفافية وتجنّب أيّ تضارب محتمل في المصالح». لكن مصادر «الأخبار» تفيد بأنّ عملية اختيار الجمعيات ومنظّمات المجتمع المدني التي يمكن منحها عطاءات لتنفيذ المشاريع المقرَّرة تتولّاها مستشارة سابقة لزعيم سياسي تقليدي، وهنا تضيف المصادر بأنّ جمعيات تابعة لبعض «التغييريين» وجمعيات و«مؤسسات التمويل الأصغر» (MFIs) تتبع لأحزاب «المنظومة»، تتقاسم على حدّ سواء حصص التمويل للبرامج المموَّلة من قبل المانح الدولي ضمن إطار 3RF.
هكذا مرّت صفقة شرعنة إطار «الإصلاح والتعافي وإعادة الإعمار» الذي أرادته «الجهات الدولية»


تلخيصاً للمشهد، قرّر الفرنسيون وغيرهم من المانحين أن يدشّنوا إطار 3RF بحجّة عدم الثقة بالسلطة اللبنانية التي يعشش فيها الفساد، لكن واقعاً تموّل باريس وأقرانها عبر إطار 3RF أحزاب السلطة نفسها، مع إضافة بعض «التغييريين» هذه المرّة كشركاء في المحاصصة. أحجية محيّرة، فلماذا لم تعمد فرنسا ومن معها إلى توفير عناء تشكيل إطار كهذا والعودة مباشرة إلى هياكل الدولة الموجودة أصلاً لتمرير التمويل، طالما أنّ أحزاب السلطة ستظلّ مستفيدة من أموالها؟ لا تفسير منطقياً لهذه الأحجية سوى أنّ الغرب القيّم على المشروع يسعى إلى مزيد من الوصفات النيوليبرالية التي تهدف إلى إضعاف مؤسسات الدولة، والإجهاز على ما استثناه فساد السلطة على مدى عقود.