طريق الجديدة، معقل تيار «المستقبل» ورافعته، ليست «زيّ ما هيّ»، كما كانت دائماً قبل الانتخابات النيابية. لا أعلام زرقاء ولا صور جديدة لـ«الشيخ سعد» إلا ما عُلّق سابقاً وبهُت لونه. أحدث ما عُلّق، منذ أشهر، «اليافطة» الخضراء التي تحمل صورة وليّ العهد السعودي محمد بن سلمان وتتدلّى من أحد المباني المطلّة على الملعب البلدي. قبل «فورة» اليومين الماضيين لشبان المنطقة الذين قصدوا «بيت الوسط» لثني «الحبيب» عن قراره، أنزل أهالي المنطقة ابن «الرفيق» من على الأعمدة والشرفات بعدما اعتادوا غيابه. «الفورة» الأخيرة لا تحجب التململ الذي يعشش في طريق الجديدة، وفي بقية مناطق بيروت، «عاصمة التيار». من المزرعة إلى المصيطبة والملا والصنائع إلى راس بيروت، يعيش كثير من البيارتة «فراغاً زعاماتياً» وإعادة نظرٍ بالتوجهات والأشخاص. شيء من تلمّس الطريق ومحاولة البحث عن «قائد حقيقي» في «المجتمع السني»، يبدّد خوفه من خسارة مكتسباته في بنية النظام المكرّسة في اتفاق الطائف
عاش سعد الحريري في مشاعر قسم كبير من محبّيه على إرث والده، ما منحه شرعية «تاريخية» في المجتمع البيروتي – السني، واهم من يظن أنها انتهت بصفقة رئاسية أتت بميشال عون رئيساً أو بانكفاءٍ خدماتي واجتماعي أو بعدٍ عن شارعه. لكنْ، واهم أيضاً من لا يرى أن هذه الشرعية نفسها وصلت إلى حدودها الدنيا، للأسباب عينها. ما بين الحالتين خيط رفيع وفترة دقيقة وساحة متروكة وطامحون ذوو خيال واسع كثر، من رئيس نادي الأنصار نبيل بدر إلى النائب فؤاد مخزومي، وليس انتهاء بالشقيق بهاء الحريري.
كتلة وازنة ترتبط بالرجل عاطفياً نتيجة الحب الكبير لرفيق الحريري، لذلك سيشكّل غياب سعد «كسرة ظهرٍ» بحسب تعبير سيدة ستينية تقطن منزلاً متواضعاً في الملا، تتذكره بصلواتها ودعواتها شأنه شأن أبنائها. تفرح لخبر قدومه إلى لبنان و«ينقبض قلبي» في كل مرة يغادر فيها.
تستشيط غضباً عند الحديث عن «ناكري المعروف من أهل بيروت، ممن تخلوا عنه مع تراجع أحواله المادية وتقديماته الخدماتية»، وتؤكد أنها لن تقترع لأحد إن عزف سعد عن خوض الانتخابات. تعود بذاكرتها إلى يوم زارها في منزلها عقب وفاة زوج ابنتها الذي كان يعمل سائقاً لديه: «سأل عن أحوال الجميع، عن الاحتياجات، وتكفّل بكل شيء». ممتنّة هي لـ«تواضع القائد مع رعيّته» كما تصفه. توقّف الزمن هناك ولا يعنيها وعائلتها الكبرى سوى تلك الصورة. «لم يخطئ» سعد على الإطلاق. لا عتب عليه، ولا داعي للقلق وللبحث عن زعيم «طالما فيه روح».

(هيثم الموسوي)

المزاج عينه يعبّر عنه آل العرب في منطقة قصقص، حيث نشأ عبد عرب (أبو كريم)، ظلّ سعد الحريري وليس فقط رئيس جهاز أمنه الشخصي. الولاء في الأصل كان لـ«أبو بهاء» ولم يتغيّر يوماً مع سعد، بل ازداد بعد حادثة احتجازه الشهيرة في السعودية، وكان عبد عرب برفقته. «كنا معنيين مباشرة بما حصل، وتعاطفنا مع الحريري الذي دفع ثمن أخطاء خصومه» عبارة كرّرها بضعة شبانٍ من آل العرب. مبررات هؤلاء في معرض دفاعهم عن سعد ليست نفسها لدى آخرين، كالشاب الثلاثيني الواقف على بعد أمتارٍ. لدى سؤاله عن دوافع تأييده للحريري، يتكئ على عمود إنارة، يطيل النظر ويبتسم كالهارب من إجابةٍ هو نفسه غير مقتنع بها. لا تعليق عما إذا كان انقطاع «القائد» عن مدينته وناسه مبرراً في عزّ اشتداد الأزمة الاقتصادية. يهزّ الرأس والكتفين، ومرة جديدة يكتفي بالابتسام، ويستعجل المغادرة عند السؤال عن أحوال بيروت. لكنّ الوجوه تحكي في أصدق اللحظات، وملامحه كانت تفيض بالحزن و«قلّة الحيلة» في الدفاع عن زعيم يجرّد ناسه من أسلحة دفاعهم، وعن ولاءٍ يهوي، تماماً كـ«زعامة الابن»، وكالبلد الذي لا يزالون مقتنعين بأن «أبو بهاء» بنى البشر والحجر فيه، ويرون مؤسساته تتساقط كأحجار الدومينو.
في محاولة تشريح المزاج البيروتي المرافق لقرار الحريري المنتظر اليوم، يصبح التوقّف في الطريق الجديدة بحكم الواجب. لطالما شكّلت تلك المنطقة الشعبية خط الدفاع الأول، والأشرس، عن «التيار الأزرق»، بمناخها السياسي الأكثر حدّة، وهو ما يجعلها اليوم مفتوحة على أكثر الاحتمالات رداءةً، مع خروج أصوات قليلة تنادي بزعيمٍ بـ«صفات سمير جعجع الذي خاض قتالاً شرساً خلال واقعة الطيونة بوجه الشيعة». مطلق هذه العبارة هو نفسه يؤكد أنه لن ينتخب «إلا سعد» في حال ترشّحه، لكنه يشكّك في قدرة الحريري على «المواجهة». أثّرت واقعة الطيونة في نفوسٍ تشرّبت الذهنية المذهبية، كمعظم رعايا الطوائف، ويُشعرها اهتزاز زعامتها السنية في مرحلة صعود الشيعية السياسية بقلق وجودي. لكن تبقى هذه أصوات قليلة، في إطار رد الفعل الظرفي، ولا يمكن لـ«ناسك» معراب الانتشاء بها واعتبارها أرضية تمكّنه من الحفر في الطائفة «اليتيمة» اليوم.
بحسب عدد كبير من الأهالي ممن تحدثت إليهم «الأخبار»، بات تأييد الحريري في المنطقة يقتصر على المنتسبين حزبياً وقلّة من خارجهم، يحكمهم «الخوف من دعم الثنائي الشيعي لمرشحين سنّة»، يقولها أحد أبناء المنطقة بوضوح، مع قناعته بأن «تكريس زعامة سعد مرة جديدة سيحمينا من سيطرتهم المستمرة على الشوارع الواحد تلو الآخر»، وتوافقه مجموعة شبانٍ تجمعوا على مقربة من مدخل الملعب البلدي.
الفئة المؤيدة لسعد تختلف في دوافعها المعلنة، لكن تحكمها في الأصل ديناميكية التعاطف مع «القائد الضحية». نجح الحريري بتقديم نفسه ضحية. في نظر هؤلاء، هو «الطّيب» ضحيّة مَن حوله مِن فريق عمل، و«ضحية سياسات حزب الله التي دفع ثمنها باستقالته الشهيرة من الرياض»، و«ضحية من تخلوا عنه من أهل السنة»... لكل تلك الأسباب يتعاطف هؤلاء معه ويجدّدون الولاء له، مع تراجع واضح بما تمثّله هذه الشريحة من الشارع. هؤلاء ليسوا جاهزين لتقبّل فقدان سعد بما يرمز، ويرون فيه ممثل السنة في لبنان والخارج مثل بقية زعماء الطوائف، خصوصاً أن لا بديل حقيقي عنه.
على نقيضهم شريحة واسعة تتحدّث عن «خذلان سعد للشارع البيروتي الميال للبحث عن زعامة تسترد الكرامة وتفيده وظيفياً في العودة إلى صلب المعادلات السياسة والطائفية في البلد وتثبيت حضوره». ولأن المخيّلة الجماعية بحكم شكل النظام اللبناني تعمل على الربط بين شرعية الزعيم وهوية الطائفة، تصبح المقارنة بين من يقوّي موقع طائفته ومن يضعّفها هي المعيار لإضفاء صفة الزعيم على هذا، وحجبها عن ذاك. يقول صاحب متجر عطورات: «على زمن رفيق الحريري كنا نفتخر بأننا من أهل بيروت والسنة، اليوم نضع رؤوسنا في الأرض»، يشرّح الرجل أخطاء سعد «بقلة درايته بدّد ثروته وكانت نتيجة ذلك أن أقفل مؤسسات والده الاجتماعية الرعائية من تعليم وطبابة ودور رعاية الخ... والتي سدّت على مدى سنوات حاجة البيارتة من الخدمات الغائبة رسمياً، وها هم اليوم يتسولون سريراً على أبواب المستشفيات، وبعضهم استغنى عن التعليم الجامعي لأبنائه. إنها سخرية القدر. بعد أن كنا نتباهى برفيق الحريري واهب المنح التعليمية لمئات آلاف الطلاب على امتداد لبنان، شرّد سعد عائلات موظفي مؤسسات المستقبل، وذهب إلى ما هو أبعد بعدم إعطائهم حقوقهم. خذل جيشه الوفي منذ بدايات حكمه وعلى امتداد كل مراحله الصعبة في ما بعد».
في المقهى المجاور، يمتعض الرواد من «تهاون سعد بقبول التسويات السياسية التي جرت دوماً على حساب الطائفة السنية»، ويمنّون النفس بقادة «صقور يمتلكون من الحنكة والذكاء والدهاء السياسي ما يكفي لحماية مصالح طوائفهم ومناطقهم» أمثال الرئيس نبيه بري ورئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط. يقول أحدهم: «رفيق الحريري جاب الكل لعنده. سعد رضي بتسوية رئاسية ليحافظ على المنصب». آخر يعتبر أن «لا عيب في الاعتكاف»، بل يلوم سعد على التأخر في اتخاذ الخطوة، مستعيداً «اعتكاف الحريري الأب يوم عجز عن تشكيل حكومة كما يريد».
يتردّد اسما فؤاد السنيورة وأشرف ريفي، بين رواد المقهى، في سياق الحديث عن شخصيات حازمة، بوصفهما «الأقدر» على مواجهة الخصوم في إشارة واضحة إلى حزب الله والتيار الوطني الحر. لكن الجميع يتفق في النهاية أن أحداً منهما لا يمكنه أن يكون «زعيماً حقيقياً». أما بهاء فـ«خائن حارب أخاه»، بحسب أحدهم، و«يعود ليس لشعوره بضرورة احتضان أهل بيروت والسنة، بل ليؤدي دوراً مطلوباً منه». تغيب «العمة بهية» تماماً. أحد لم يذكرها، رغم أنها كانت دائماً الحاضن الأول والأقوى لسعد، فيما الغضب ينصبّ على نجلها أحمد «بدنا أمين عام حزب واعي» يقول شاب من طريق الجديدة، ويوافقه كثر. النائب فؤاد مخزومي «سقفه نائب ومقدّم خدمات جيد»، أما رئاسة الوزراء فـ «مبهبطة عليه»، فيما النائب نهاد المشنوق «بابه مفتوح» أمام قاصديه، و«نقطة على السطر»... باختصار، لا أحد، من محبي الرجل ولا ممن يأخذون عليه ضعف أدائه، يجد بديلاً له اليوم. وكما يتفق الجميع على عدم جاهزية البديل، يجمعون على أن سعد «لا يشبه رموز الطبقة الحاكمة بدهائهم وخبثهم. ألم يكن أول من استقال في انتفاضة 17 تشرين؟»، يسأل أحدهم.
«الضياع» الذي يشعر به البيارتة يعزّز «الخوف الوجودي» ويقود فئة إلى التطرّف وفئة أخرى إلى الإحباط


«الضياع» الذي يشعر به البيارتة يعزّز «الخوف الوجودي». يقود فئة إلى التطرف والبحث عن «قائد شرس بوجه الخصوم، وقد يكون سعد هذا القائد في حال أرضى السعودية وتخلى عن الاعتدال في وجه حزب الله»، ويقود فئة أخرى إلى اليأس والإحباط. وعلى هامش الشريحتين قلة قليلة تأثّرت بـ«انتفاضة 17 تشرين» ستمنح مرشحي لوائح المعارضة أصواتها «على سبيل التجربة»، ومن دون رفع مستوى التوقعات.
لم تكن تحالفات سعد التي تعارضت مع مصلحتهم الجماعية، كما يرونها، عامل تآكل الشرعية الوحيد. غياب الإنجازات وانعدام الخدمات وسوء اختيار النوّاب كانت عوامل أساسية. يسأل صاحب محل لبيع الخضار في المصيطبة عن إنجازات سعد، ويجيب بنفسه: «لا أتذكّر أيّاً منها». فيما ينصبّ لوم جاره على غياب نواب كتلة «المستقبل» عن الناس. «لا نريدهم في عزواتنا، بل عندما نفقد مقومات الحياة الأساسية من مياه وكهرباء لأيام عدة». وحدها النائبة رلى الطبش يتردّد اسمها من وقت لآخر.
هؤلاء، خصوصاً ممن يقيمون بعيداً من طريق الجديدة والجو الطاغي فيها، يحمّلون «المستقبل» مسؤوليةً عن الأزمة الاقتصادية كشريك أساسي في الحكم طيلة الحقبة الماضية، «ماذا فعل منذ بداية الانهيار»؟ سؤال يُطرح بكثرة. وفي أحسن الأحوال، «لا يحق لسعد الحريري ترك ناسه في أزمةٍ كهذه، والإقامة خارج البلد، حتى وإن لم يكن بيده تغيير الكثير». كثر يرددون عبارات من قبيل «نفتقد القائد الأب الذي يخدم الناس، يحمينا فنحميه».

نجح الحريري «الطيّب» في تقديم نفسه ضحيّة فريق عمله ونوابه ومن تخلّوا عنه، وضحيّة سياسات حزب الله


البيارتة، كغيرهم، ممن يقيمون في هذه البقعة الجغرافية المتمسّكة بصفات الأبوية، شعب ينقاد بالعاطفة، وتأخذهم «النوستالجيا» إلى حقبة رفيق الحريري، رغم الإجماع على أن المقارنة بين الحريري الأب وابنه فيها ظلم للوريث. في كل مرة يصعب حال المدينة على أهلها، يتذكّرون «أبا بهاء». أحدهم، من آل العيتاني، يؤكد: «لو كان رفيق الحريري على قيد الحياة لما ترك بيروت مظلمة، وأهلها عرضة للموت على أتفه سبب في ريغار صرف صحي، وإشارات سيرها متوقّفة كما الحياة فيها». يقارن بين أحوال المدينة والضواحي، ويستخلص: «صارت الضواحي بطرقاتها وإنارتها وحيويتها أفضل من العاصمة».
استطاع رفيق الحريري الصيداوي أن يتوج نفسه زعيماً لأهل بيروت، وهنا فشل الرئيس نجيب ميقاتي. في تعداد الأسماء لا يذكرونه ولا يعنيهم حتى وجوده في سدة الرئاسة الثانية. دمّ رفيق الحريري حفر عميقاً في وعيهم. الضياع والفراغ يسمحان، من حيث المبدأ، بأن تفرز الظروف، ربما، شخصيةً قيادية تجذب القاعدة... لكن ليس الآن على ما يبدو.

ليست الانتكاسة الأولى
شهدت كل من الطوائف اللبنانية، في مراحل تاريخية، انتكاسات إما لأسبابٍ داخلية تعنيها، أو نتيجة الظروف السياسة العامة، أو تأثراً بالأوضاع الإقليمية. «السنة، تحديداً، بحكم سيطرة المارونية السياسية، شعروا بالغبن منذ زوال الدولة العثمانية وحتى اتفاق الطائف»، يقول المؤرّخ الدكتور حسّان حلاق، مشدداً على أن «المسلمين السنة، منذ عهد الدولة العثمانية، لم يشعروا بأنهم مذهب أو طائفة أو أقلية، بل أمة».
كان اغتيال رئيس الوزراء رياض الصلح، في الأردن في تموز 1951، «الحدث الأول الذي هزّ المسلمين السنة»، يقول حلاق، «لكن لم تنته الطائفة، ولا البيت السياسي أُقفِل. شهدنا حكم 4 رؤساء وزراء من آل الصلح: رياض، تقي الدين، رشيد وسامي. في فترات لاحقة تعرّضت الطائفة برموزها وبالأحداث الإقليمية المؤثرة فيها إلى نكسات. استشهد رئيس الوزراء رشيد كرامي عام 1987، والمفتي حسن خالد عام 1989، وبقيت الطائفة المؤمنة بأنها فوق المذاهب والرجالات».
في عهد رئيس الجمهورية الياس سركيس، «استبشر السنة بذاك الشاب الأربعيني (سليم الحص) من خارج الطقم السياسي التقليدي. تميّز الرجل بالعلم والحكمة ولم يتورط في الفساد ولا زواريب المذهبية». لكنه، في العام 2000، سقط أمام النائبة غنوة جلول. «امتلك رفيق الحريري مواصفات القوة السياسية والمالية والاجتماعية والتقديمات التي كان الناس بحاجة إليها، فدخل السياسة قوياً، واعتبر أهل الطائفة أن مجيئه يقويهم». لكن، لم تطل فترة الصعود، فكان اغتياله عام 2005 «قصماً لظهر السنة»، بعد أن ملأ فراغاً ولّده غياب الرعيل السابق من الزعامات. وقع اختيار آل الحريري على سعد ليكون الوريث السياسي، وما جعله يصمد على رأس الزعامة السنية هو الولاء القوي لـ«أبو بهاء».
يقرّ حلاّق بأن «الشارع السني عامة والبيروتي خاصة، يفتقد إلى زعاماتٍ تماثل رفيق الحريري ورشيد كرامي وصائب سلام وعبدالله اليافي وعثمان الدنا. لذلك، «يشعرون بأنهم بحاجة إلى قيادة تاريخية تحيّي الأمل فيهم». ومع كل التشتت الحاصل، يرفض حلاق التشاؤم: «الطائفة مليئة بالكفاءات السياسية والاقتصادية والاجتماعية غير المعلنة، بعضها يرفض خوض غمار السياسة في ظل النظام القائم وبعضها لعدم توافر الإمكانيات، لكن الانتخابات ستفرز مشاريع قيادات. ولأن «القيادة لا تخلق»، ينتظر حلاّق ظروفاً سياسية واقتصادية واجتماعية تؤدي إلى ولادة الزعيم. يقسّم الرجل الشارع السني إلى «فئة تريد منح سعد الحريري فرصةً أخرى ليعيد تكوين زعامة سنية، على أن يكون له مستشارون جدد وبطانة جديدة، من أصحاب الرأي الذّين يتميّزون بالنصيحة والعلم والكفاءة والحكمة. وفي المقابل، كثر يطالبون بتغيير جذري». لكن «الجميع غير قادر على التحرّك قبل اتضاح موقف الحريري: هل يترشّح؟ هل يرشّح لائحة محسوبة عليه؟ أم ينكفئ تماماً؟ أسئلة أساسية، لكل منها سيناريو». وفي ظلّ الأوضاع المعيشية الصعبة وحاجة الناس، يصبح الفقر عنصراً أساسياً ومؤثراً في مسار الانتخابات. «الناس بالعام ستصوّت للمتموّل لا للمشروع، ولذلك فإن أي مرشحٍ، سواء سعد الحريري أو سواه، سيخسر من رصيده السياسي عندما ينكفئ مادياً واجتماعياً، بحكم نظام الخدمات الشخصية الذي نعيش في ظلّه».


يوم التنصيب
يعود أحد شبان قريطم بالذاكرة إلى ما قبل 2005، حين كان سعد الحريري شاباً في بداية عقده الثالث. «كنا نراه في حديقة القصر يدخّن السيجار، نتأمل ابن الزعيم الغارق بالترف والجاه، وجلّ ما نعرفه عنه انخراطه في عالم الأعمال وابتعاده عن السياسة. مع اغتيال الحريري، انتظرنا بهاء، وهتفنا باسمه داخل إحدى قاعات قصر قريطم، لنفاجأ بصوت يصدح: سعد سعد سعد. فتح أحد الأبواب وأطل سعد على الجمهور المجروح. من دون أن ندري كيف ولماذا تبدّل الخيار، هتفنا مع الهاتفين لسعد. بدا لنا منذ اللحظة الأولى ضعيفاً، وظننا أن ذلك من وقع صدمة اغتيال والده. على مرّ السنوات نظرنا إليه كحملٍ وديع بين صقور وحيتان في السياسة. الطيبة نقطة ضعف وقوة في آن، وهي وحدها لا تبني زعامة».


الهوى لا يزال سعودياً
الشحن المذهبي يجعل السعودية حاضرة دائماً. يجمع مؤيدو الحريري والممتعضون منه على أن «المملكة» هي «الرمز والبوصلة لأهل السنة»، ويبررون لها مواقفها حيال سعد الحريري. «دعمته معنوياً وسياسياً واستثمرت في مشروعه كتكملة لمشروع والده، لكنه لم يفلح». في رأي بعضهم، «السعودية دولة لها مصالحها وهو استثمار خاسر». رغم تمزيق صور ولي العهد محمد بن سلمان على يد قلّة من الشبان الغاضبين أول من أمس، لم يشر أحد إلى أن السعودية، بموقفها من سعد، تخلّت عن أهل السنة. الغالبية تبرر للمملكة سلوكها بأن «أراضيها المقدسة مهددة من الحوثيين. تُقصف السعودية وسعد الحريري يجلس على طاولة حكومة واحدة مع حزب الله داعم الحوثيين».