مجموعة تحالف «السلطة العميقة» التي تجمع سياسيين ومرجعيات دينية وأمنية وقضائية وحزبية الى جانب رجال المال والمصارف والأعمال، شرعت في موجة جديدة من الهجوم على فكرة المحاسبة. تشاركهم هذه المرة بعض القوى التي ادّعت قيادة الحراك الاجتماعي ضد الفساد في الدولة، وهو ما ظهر جلياً في طريقة تعامل مجموعات الحراك التي غابت عن السمع في متابعة ملف القاضية غادة عون وملاحقة ملف الأموال المهرّبة. كذلك ظهر أداء التحالف في طريقة تعامل وسائل الإعلام التابعة لفريق السلطة في الشارع، والتي حاولت حصر المشكلة بالخلاف داخل الوسط القضائي، متجاهلة أن أصل المشكلة يكمن في آلية مكافحة الفساد وتطبيق القوانين الخاصة بمحاربة الفساد والتدقيق الجنائي ومنع تحويل الأموال الى الخارج، وكشف شبكات التهريب الكبيرة التي تستمر منذ ما قبل 17 تشرين.وإذا كان في المعارضة التقليدية للسلطة من يهتمّ بالتركيز على الرئيس ميشال عون والتيار الوطني الحر، ومن خلفهما حزب الله، إلا أن البارز هو حالة التوتر الكبيرة التي قد يكون أفضل من يعبّر عنها نائب رئيس المجلس النيابي إيلي الفرزلي الذي انقلب على الرئيس عون وكتلة التيار النيابية، وعاد الى تموضعه السابق في التحالف الذي يجمع قوى سلطة الطائف السابقة. ولعلّ ما يقوله الفرزلي يشرح خلفية التوتر الكبير الموجود عند هذه المجموعة، والتي فشلت في انتزاع أغلبية قضائية تقصي القاضية عون، فبدأ البحث عن شكل جديد من خلال تشريعات ولجان تحقيق نيابية تهدف الى سنّ قوانين تمنع القضاء من التجرّؤ على فتح ملفات تمسّ «كبار القوم».
في هذا الصدد، يبدو أن التطورات في ملف شركة مكتّف تتصل بما يتجاوز عملها التقليدي، وخصوصاً بعدما تبيّن أن الشركة توثّق كل عمليات التحويل المالية التي تغطّي في بعض الحالات عمليات تبييض للأموال أو خلافه. وكشف مصدر واسع الاطّلاع أن وزارة الخزانة الأميركية سبق أن استدعت مالك الشركة، ميشال مكتف، الى واشنطن في آب 2019، أي قبل شهرين من اندلاع احتجاجات تشرين، و»ناقشته» أو «استجوبته» حول طريقة عمل شركته وكيفيّة نقل الأموال من لبنان وإليه. وقال المصدر إن مكتّف قدّم معلومات كثيرة كانت وزارة الخزانة تحتاج إليها في ما خصّ الملاحقين من قبلها.
لكن الأمر تبيّن أنه يتجاوز هذا الحدّ، إذ إن العمل الذي تقوم به القاضية عون يستهدف معركة هوية أصحاب الأموال التي يتولّى مكتّف نقلها الى خارج لبنان، سواء عبر تحويلات مصرفية أو عبر عمليات نقل الأموال نقداً، إذ إنه في حالة مكتف، تسقط السرية المصرفية عن أعماله المعلنة، وتحديداً الأموال المنقولة نقداً، بينما لا يمكن لأحد معرفة أمرين:
الأول، من أين حصل على الأموال المحوّلة الى حساباته في لبنان والخارج، وتحديداً في سويسرا؟
الثاني: كيفية إعادة تحويل الأموال من حساباته في الخارج الى أصحابها الحقيقيين.
من واجب عويدات التعامل مع فتح تحقيق مستقلّ في الملفّ السويسري كونه يتضمّن شبهة اختلاس أموال من مصرف لبنان


في هذه الحالة، يفترض بالتحقيقات الجارية أن تكشف إما هويّة الجهات أو الأشخاص الذين طلبوا منه تحويل أموال الى الخارج، وأن يصار في مرحلة ثانية الى طلب التعاون مع السلطات السويسرية لأجل معرفة حركة حسابات مكتف وشركاته هناك بعد وصول الأموال المحوّلة إليها من لبنان.
في الشق الأول، يبدو أن القاضية عون تواجه تحدّيات كبيرة، أبرزها غياب الدعم القضائي لها، سواء من جانب النائب العام التمييزي القاضي غسان عويدات، أو حتى بقية أعضاء مجلس القضاء الأعلى، وصولاً الى القضاة الذين يدّعون أنهم مع حماية هذه السلطة وشكّلوا أندية وأطراً مختلفة. بالإضافة الى أن تعطيل فعاليّة قانون رفع السرية المصرفية عن جميع العاملين في الحقل العام سيزيد من تعقيد مهمة القاضية عون.
أما الشق الثاني فهو مرتبط أولاً وأخيراً بطريقة تصرّف النائب العام التمييزي الذي لا يظهر حماسة كبيرة للتعاون مع سويسرا، وهذا ما ظهر في كيفية تعامله مع طلب المساعدة في ملف حاكم مصرف لبنان رياض سلامة، إذ لم يقم بالتحقيقات المفترضة، سواء مع الحاكم أو شقيقه أو مساعدته أو الموظفين المعنيين في مصرف لبنان، علماً بأن عويدات استقبل أخيراً مسؤولين من سويسرا رافقوا وزير الخارجية السويسري في زيارته للبنان، وسمع منهم احتجاجاً على عدم التعاون، وعلم أنه وعدهم بتقديم حواب قريب عن أسئلتهم. وليس بإمكان عويدات هنا التذرّع بأن الطلب السويسري يتضمّن احتمال أن يختار سلامة وشقيقه الخضوع للتحقيق في سويسرا، وهو ما جرى فعلاً، إذ إن من واجب النائب العام اللبناني التعامل مع الملف السويسري كإخبار، وفتح تحقيق مستقل فيه، وخاصة أنه يتضمّن شبهة اختلاس أموال عامة من مصرف لبنان.
لكن، هل يقبل عويدات الذهاب بعيداً في متابعة ملفّ مكتّف والتحويلات المالية بالتعاون مع القاضية عون، وعدم الخضوع لطلبات أركان السلطة السياسيّة ومزاجهم؟

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا