في يوميات صيدا، عاد إيليا «إشارة سير» وليس ساحة ثورة، بعد أشهر قليلة على «17 تشرين». التقاطع الواقع عند منتصف أوتوستراد صور - صيدا - بيروت، عاد إلى طبيعته. تقاطع سيارات يتوسط «المولات» والمصارف، تحوّل بفعل الثورة إلى حيز عام جمع الصيداويين والجنوبيين في نقطة تلاقٍ وطنية وسياسية في عاصمة الجنوب، وكرنفال احتفالي استرزق منه فقراء المدينة والباعة المتجولون. في الذكرى الأولى لاندلاع ثورة «17 تشرين»، لم يضرب جميع أهل الحراك موعداً في إيليا. التحركات ستكون ناقصة. وجوه الساحة الأبرز ستكون غائبة، إما لسفر أو لهجر.من على بعد آلاف الأميال، سيمر على غنى صالح عيد الثورة الأول وهي في كندا. لن تملك الوقوف على شرفة بيتها الصغير وتصرخ «يا ثوار»، كما كانت تفعل على مسرح ساحة إيليا وهي تفتتح الاحتفالات الليلية. نهاية شباط الماضي، غادرت الشابة (27 عاماً) إلى بلد «يعاملني كإنسان»، رغم أنها لم تفكر مسبقاً لا قبل الثورة ولا بعدها، بالإقامة في الخارج. «جرّبت أشياء كثيرة في لبنان لأتمكن من تحقيق طموحي وأحلامي والصمود بوجه التحديات». قبل سفرها، عملت في أربع مهن مرة واحدة لأكثر من 15 ساعة يومياً. قرّرت السفر نهاية العام الماضي مستفيدة من حيازتها جواز سفر أجنبياً «عندما وصلت أنا والثورة إلى طريق مسدود وعندما تعمّقت أكثر برفاق الساحات في لبنان عموماً ووجدت ميل غالبيتهم إلى زعمائهم». توصلت إلى خلاصة: «سأسافر وأستمر بالنضال من الخارج. نحن في لبنان، نحتاج إلى جيلين على الأقل لنصبح جاهزين للتغيير». واجهت غنى انتقادات لاذعة ممن كانت تحثّهم على البقاء في الساحات. تتفهّم لكنها «تعبت. أنجزت في كندا في سنة واحدة، ما لم أنجزه بسنوات في لبنان». انفجار مرفأ بيروت قضى على آخر آمال غنى بالتغيير. سرعان ما لحق بها أشقاؤها. «أصبحنا عائلة هنا. لن أعود إلى لبنان لأعيش مذلولة فيه حتى لو متُّ».
من لم يسافر أو لم يستطع من ثوار إيليا تبدلت أولوياته


على خطى ابنة حارة صيدا، سار رفيقها في منبر ساحة إيليا الصيداوي علي الإبريق، نحو الغربة. صاحب نداء «يلي واقف عالرصيف ما معك حقو للرغيف»، يدعو فيه المضطهدين إلى الثورة، اضطر إلى السفر بعد أن فشلت ثورته في تأمين ثمن الرغيف. ابن الـ 28 عاماً اختار «سيئ الغربة بدل أسوأ الوطن. قمع أفكار ومعيشة ومناطقية وفوقية وأحادية التفكير». جواز سفره اللبناني سهّل عليه السفر إلى تركيا حيث لا تأشيرة، بعد أن فشل في السفر إلى ألمانيا وكندا. «في لبنان، كنت أعمل في مجال التسويق في النهار وحارساً ليلياً لمدرسة. لكن عمل الـ 15 ساعة المتواصلة، أوصلني إلى وضع نفسي سيئ، خصوصاً بعد أن هبطت قيمة الليرة وعدم تمكني من مواصلة تسديد قرض الإسكان لشقتي. اضطررت للتخلي عنها بعد أن تعبت في كل شبر فيها. كنت قد سدّدت 40 ألف دولار من حقها وفق سعر الصرف الرسمي. لكني اضطررت لبيعها بـ 8 آلاف دولار وفق سعر الصرف الجديد».
يأس علي لا ينفي إقراره بالجبن. «أنا هربت من الجحيم. هذا البلد يخلق صراع أفكار لدينا بين الصمود أو الاستسلام». من لم يسافر أو لم يستطع من ثوار إيليا، تبدلت أولوياتهم. منهم من حوّل العمل الثوري إلى اجتماعي وإغاثي عبر جمع المساعدات وتوزيعها خلال أزمة كورونا ومنهم من خرج من إطار التقاطع وعاد إلى مربعه الأول. ممن عادوا، قاعدة الحزب الديمقراطي الشعبي التي«تخطّت التباينات بين الأفرقاء في ساحة إيليا تحت ضغط الحدث الكبير. نجحنا جزئياً ووحّدنا بوصلة التحركات، لكن الانقسامات الكبرى ظلت حاضرة في كل لقاء تحضيري وتحرّك، حتى فرضت الخلافات نفسها بعد أن بردت التحركات» قالت نيفين حشيشو.

اشترك في «الأخبار» على يوتيوب هنا