منذ 72 ساعة، تعيش مدينة بيروت في قلب الركام. الانفجار الضخم الذي أودى بمرفئها، لم يوفّر أياً من شوارعها. مبانٍ انهارت وأخرى تشظّت. الشوارع امتلأت بـ«أشلاء» المباني وقطع الزجاج وغباره. المدينة كلها باتت منكوبة، من دون عناء إعلان ذلك رسمياً.في اللحظة الأولى للانفجار، لم يكن أحد قادراً على استيعاب صدمة انهيار المدينة. حتى كان اليوم التالي، حين بدأت ورشة الأشغال منذ الصباح الباكر في محاولة للملمة آثار الليلة المشؤومة. استحالت بيروت خلية نحل. متطوعون يتدبرون معدات باللحم الحي للمساعدة في رفع الركام. بلديات مجاورة نزلت بمعداتها، فيما أرسلت بلديات أخرى عمالاً للمساعدة أو آليات. وحدها، بلدية المدينة، كانت حركتها خجولة في الشوارع والطرقات. وقد لاحظ الناس هذا الغياب في الزجاج المتناثر في الشوارع الرئيسية منذ أيام وفي أكوام النفايات التي سدّت مداخل رئيسية، من دون أن يحرّك ذلك أحداً، حتى بات السؤال اليوم وسط هذا الخراب «وينيي البلدية؟» بدل «وينيي الدولة؟»، بحكم أن الدولة غائبة أصلاً.
تفرض الإجابة عن هذا السؤال المرور بالاجتماع «الاستثنائي» الذي عقد في مكتب محافظ بيروت، القاضي مروان عبود، أول من أمس. حملت الدعوة صفة العجلة للبحث في آلية العمل في ظل هذا الظرف الطارئ. وخلال الاجتماع، كان واضحاً «العجز والارتباك، خصوصاً أننا في البلدية لم نؤسس لخلية إدارة كوارث، وبالتالي نحن عاجزون عن إدارة تلك الأزمة التي حلت علينا بكل هذه الضخامة»، بحسب أحد الأعضاء. وهذا بيت القصيد الأول. مع ذلك، خرج المجتمعون بلائحة مقررات، أبرزها تقسيم المدينة إلى 9 مناطق جغرافية، لكل منطقة لجنة يرأسها أحد أعضاء المجلس البلدي، إضافة إلى مهندس من البلدية ومن فوج الإطفاء وآخر من الحرس. وقد أعطيت هذه اللجان صلاحيات تنفيذية للعمل ضمن «الأملاك الخاصة»، فيما ترك أمر الأملاك العامة للمتعهدين. أما البند الآخر «المهم» فهو رصد مبلغ بقيمة 30 مليار ليرة مخصص لأعمال الإغاثة.
انتهى الاجتماع... ولكن لم يبدأ «الجد». صحيح أن اللجان المشكّلة بدأت جولاتها الميدانية على المباني الخاصة لسؤال الناس عما يحتاجون إليه، إضافة إلى تقدير قيمة الأضرار، إلا أن «ما ليس مفهوماً ما الذي سنفعله بعد ذلك؟». هذا السؤال يستتبع بسؤال آخر عن آلية التعاطي مع المبلغ الذي أقرّ خلال الجلسة؟ فبالنسبة إلى بعض الأعضاء «الأمور مبهمة، لم نعرف ما المقصود بالأعمال الإغاثية؟ هل هي للناس أم للمتعهدين؟».
لم نؤسّس خلية إدارة كوارث وبالتالي نحن عاجزون عن إدارة أزمة بهذه الضخامة


السؤال مشروع هنا، خصوصاً بعدما استحالت بلدية بيروت «بلدية متعهدين». هذا ما يقوله حتى «أهل البيت»، بعدما لمسوا عجزهم في الكارثة التي حلت بمدينتهم، إذ كان عليهم انتظار «جهاد العرب» و«رامكو» وغيرهما كي يقوموا بالأشغال في المدينة. لم تفعل كما البلديات الأخرى التي عملت على تجهيز مرافقها ولو بالحد الأدنى «لم تعط خبزها كله للخباز»، بل اقتسمته مناصفة بينها وبين المتعهدين.
اليوم، وسط الخراب، كان على بلدية بيروت أن «تستجدي» المعاول والرفوش والكفوف والخوذ للعمل. أما النفايات التي تغرق المدينة منذ ثلاثة أيام، فكان على البلدية «انتظار شركة رامكو» لرفعها، يقول أحد الأعضاء، معيداً التأخير هنا إلى أن «رامكو» لم تكن قادرة على سحب آلياتها المركونة في مكان قريب من موقع الانفجار، في ظل سيطرة الجيش على المنطقة، والإتيان بالآليات من أماكن أخرى خارج بيروت. كما «كانت هناك مشكلة تقنية تتعلق بآلية نقل النفايات، إذ إن رامكو كانت تجمع النفايات في مكبّ في منطقة الكرنتينا قبل أن تتوجه بها بعد الجمع إما للفرز أو الى المطمر، ولكن في ظل وجود الجيش هناك تعذر نقل النفايات، أضف إلى أنه واجهنا أزمة مع مكب الجديدة»، بعد رفض رئيس بلدية الجديدة السماح بدخول نفايات العاصمة الى المطمر. ويشير العضو البلدي إلى أن الأمور «انحلت عصر أمس، ولكن الأمر يحتاج إلى 48 ساعة كي يجري تنظيف العاصمة من النفايات». أما الزجاج المتطاير، فثمة مشكلة تتعلق بأن «الآليات غير مجهزة لنقل مثل هذه الأمور». وفي ما يخصّ العمل في الأملاك العامة، فالبلدية «لا تملك إمكانية التصرف مباشرة، لكونها تعمل عن طريق المتعهدين، ولذلك فالأمر متروك لهؤلاء»، أضف إلى ذلك العقبة المتعلقة «بالإجراءات القانونية للتلزيمات وغيرها، وهو ما نحاول تفاديه اليوم، لكون الظرف استثنائياً».
كل هذه الامور تدفع «أهل بيت» البلدية إلى القول: «في مكانٍ ما المجتمع المدني أنشط منا». ماذا يعني ذلك؟ المتطوعون. أما البلدية، فقد سلمت «مفاتيحها» للمتعهدين. «يعني مشت متل ما بتمشي الدولة». هذا ما يقوله هؤلاء، وهم يشكون من أن «كل شيء تحول تعاقداً مع المتعهدين». لذلك، «نحنا بالأساس لا نملك شيئاً، بل نطلب من المتعهدين». وهو خطأ يقود إلى أن تغيب البلدية، لأنها «مربوطة بالمتعهدين».