تفرض المسألة البيئية نفسها في النقاش، بدءاً من الصراع الطبقي الكوكبي وصولاً إلى النقاش الذي يصاحب مشاريع مثل إنشاء سدّ في مرج بسري. وسرعان ما يُروّج لثنائية تقول: إما البيئة وإما التقدّم.وفي سياق هذه الثنائية، وصل بعض الاقتصاديين للقول إنه لا يمكن أن نطلب من دول الجنوب التزام ذات المعايير البيئية كما في أوروبا وشمال أميركا واليابان، لأن من شأن ذلك أن يكبح تقدم تلك الدول ويُبقي على الفجوة بين القطبين. فالأخيرة دول قطعت شوطاً طويلاً في مسار التطوير. طبعاً، تمّ ذلك باستغلال موارد الكوكب وبالحروب والاستعمار... وبشكل أساسي على حساب البيئة.
ولا تزال دول المركز الرأسمالي تمارس عملية التفاف تاريخية للتهرّب من مسؤولياتها للحدّ من الضرر التاريخي الذي ألحقته بالبيئة، وذلك عبر آليّات عديدة؛ أولاً، بالتفلّت من قيود الاتفاقيات البيئية كما فعلت الولايات المتحدة الأميركية بانسحابها من اتفاقية باريس. ثانياً، بالقانون الدولي؛ كانت «اتفاقية كيوتو» تسمح بتجارة حصص الانبعاثات بين الدول الموقعة. ببساطة، يمكن لفرنسا أن تأتي إلى دولة أفريقية غير صناعية وتشتري حصتها، أي الكمية التي يُسمح لهذه الدولة بأن تنتجها من الكربون، فتُضاف إلى حصة فرنسا الأساسية بحسب الاتفاقية. ثالثاً، لقد استغلّ المركز الرأسمالي آليات التقسيم الدولي للعمل، إما عبر التخلّي عن الإنتاج السلعي الملوّث لصالح إنتاج ذي قيمة مضافة أعلى (السيليكون فالي مقابل صين-ما-قبل-هواوي) وإما تخفيض الانبعاثات عبر نقل المصانع الملوّثة إلى دول طرفيّة.
قامت الرأسمالية منذ الثورة الصناعية، بشكل رئيسي، بتحويل «الرأسمال الطبيعي» إلى رأسمال مصنّع بشرياً. تجرف غابة لتأخذ أخشابها وتصنع طاولة، تأخذ مطاطها، معادنها، تستخرج نفطها فتنتج الطاقة لتشغّل معاملها لتصنع السلع والماكينات...الخ.
في ظلّ اقتصاد السوق، عنى ذلك تدمير البيئة إلى حدّ الاهتلاك. لماذا الحديث تحديداً عن الرأسمالية؟ هل يعني أن بلداً اشتراكياً مثلاً لا يستخرج موارده الطبيعية ويترك بئر النفط تحت الغابة الوديعة؟ كلا. لكن ثمة «خصلتان» للإنتاج الرأسمالي تتركان أثراً بالغاً على البيئة.
الأولى هي فوضى الإنتاج، حيث إن السوق يضرب «خبط عشواء». قد يصل إلى أن ينتج أكثر مما يلزم، بطريقة ليست هي الأنجع أو الأكفأ، ومن دون تخطيط يأخذ بعين الاعتبار بشكل مسبق حاجة المجتمع.
«الخصلة» الثانية والأهم تندرج في خانة الهدف الأوحد في اقتصاد السوق، وهو تعظيم الربح. ويجب أن نتفق على أن تعظيم الربح في الواقع، خارج صفوف وكتب الاقتصاد الجامعية، ليس مسألة تقنية ولا معادلات رياضية. إنه هدف تخدمه العلوم، ولكن كذلك السياسة والايديولوجيا والعسكر...
في سياق تعظيمه للربح، يعمد رأس المال إلى تجاهل الكلفة الحقيقية للإنتاج وعدم التكفّل بدفع جزء منها. فعندما يرمي رأس المال، وهذا قد يكون شركة أو معملاً على ضفاف الليطاني، بالنفايات الصناعية ومياه المعامل الملوّثة في مجرى النهر أو في بحيرة القرعون، فهو يتنصّل من تحمّل كلفة معالجة هذه النفايات. لكنّ هذه الكلفة لم تختفِ، سيقوم آخرون بدفع ثمنها. والحقّ، ستقوم الطبقة العاملة بدفع ثمنها حين يُضطر الناس إلى دفع كلفة مصدر بديل لريّ المزروعات، لمياه الشرب والشفة، وصولاً إلى دفع مرضى السرطان الكثيرين في حوض الليطاني كلفة علاجهم الكيميائي. وبالتالي، فإن رأس المال يؤجّل دفع هذه الكلفة في الزمن ويحمّلها لطبقات المجتمع الشعبيّة، ليقطف هو الربح الفائق والسريع.
أما في سياق دراسة جدوى أي مشروع، ولا سيما إن كان من شأنه أن يلحق أذىً بيئياً، فيجب الانتباه عند دراسة الكلفة إلى التمييز ما بين الكلفة المحاسبيّة للمشروع وكلفته الاقتصادية. على سبيل المثال، إذا قامرتَ بمليون دولار وخسرتَ الرهان، فإنّ خسارتك، محاسبياً، هي هذا المليون من الدولارات. أما اقتصادياً، فإنك خسرت المليون دولار وخسرت كذلك ما كان يمكن أن تربحه لو استثمرتَ هذا المليون في مشروع آخر. ولذا، عندما تريد أن تبني سداً في مرج بسري، فعليكَ أن تأخذ بعين الاعتبار كلفة بناء هذا السدّ ومن ضمنها الضرر الذي تُلحقه، ولكن أيضاً الكلفة المتأتية عن خسارتك لما كان يمكن أن تربحه لو أنتَ قمت بمشروع آخر أقلّ ضرراً وأكثر إنتاجاً في المنطقة. وهنا يجدر التركيز على محدوديّة تفكير الذين يحاججون لصالح بناء السدّ، منطلقين من أن الدولة دفعت الاستملاكات لأصحاب الأراضي. فنسألهم، ألا يمكن للدولة أن تقوم بمشروع آخر أكثر استدامة وكفاءة مستفيدة من هذه الاستملاكات؟ مشروع زراعي في مرج زراعي أصلاً ضمن إطار محميّ طبيعياً يُستفاد منه في دورة اقتصادية إنمائية، خصوصاً في بلد يشدد الجميع فيه على ضرورة الاهتمام بالزراعة!
المسألة البيئية في الاقتصاد مدار جدل ساخن يتركّز غالباً حول الاستغلال الأكفأ والمستدام للموارد/الرأسمال الطبيعي، ولا سيما غير المتجدد، كجزء أساسي من نماذج النموّ الاقتصادي. ومما تمخّض عن ذلك النقاش الآخذ في التطوّر، هو التمييز بين مفهومين مهمين؛ الاستدامة المخفّفة والاستدامة المشدّدة. الأولى تفيد بعلاقة استبداليّة بين الرأسمال الطبيعي والرأسمال المصنّع بشرياً، وأننا نبقى «في السليم» ما دام كل نقصانٍ في الأول يُترجم زيادةً في الثاني. والاستدامة المشدّدة التي تفيد بأن العلاقة بين الرأسمالين الطبيعي والمصنّع ليست استبدالية بالمطلق، بل تكاملية، ما يحتّم الالتزام بمعايير بيئية أكثر حزماً.
أليس الأجدى أن تجرّد حملة لإزالة عدوان التلويث عن الليطاني حتى يصير لنا في بحيرة القرعون ماء؟


عندما يحتدم النقاش حول مشروع مثل بسري، فقد يُضطر المرء إلى تحديد معايير النقاش بعيداً عن البيئة وحمايتها والضرر الكارثي لتدميرها. وهو تنازل ليس لثانوية الجانب البيئيّ، بل لمقدرة الأيديولوجيا المسيطرة وحملاتها وخبرائها وإعلامها وأجهزتها على طمس هذا الجانب والتعمية عنه. ولذا، انطلاقاً من معايير الاستغلال الأكفأ للموارد والاستدامة المخفّفة، يشقّ السؤال حول إنشاء سدّ في مرج بسري طريقه.
هناك ردّ طريف على الذين يعتقدون بأن الأرض مسطّحة يقول: انظروا إلى كلّ الكواكب والنجوم والأجرام، ترونها كرويّة الشكل، لماذا قد يكون كوكبنا بالتحديد مسطّحاً؟
حين ننظر إلى كل السدود الحديثة الإنشاء، من المسيلحة، إلى بلعا، لماذا سنفترض أن سد بسري سيكون مختلفاً؟ هل ستصل الماء فعلاً إلى بسري؟ أي ماء تلك التي قد تصل؟ الخضراء الزرنيخيّة؟ وقبل تجريد حملة الترويج لبناء سدّ في بسري، أليس الأجدى أن تجرّد حملة لإزالة عدوان التلويث عن حوض الليطاني من أعلاه إلى أسفله حتى يصير لنا في بحيرة القرعون ماء، لا عصارات سموم ومعادن ثقيلة، نناقش جدوى جرّها إلى بيروت؟