عشرينية عيد المقاومة والتحرير مساحة زمنية تتجاوز حساباتها عدد السنوات والأيام، إلى حسابات من نوع آخر، يبرز فيها عمق التغيرات التي جرت في هذه الفترة، سواء في بعدها التكتيكي أو الاستراتيجي، من خلال الأداء التراكمي للعمل المقاوم وتجذره وتحولاته المدهشة. ذلك أن البعض، في لحظات التحرير الأولى، بنى حساباته ورهانه وتعاطيه على قاعدة أن ما جرى طفرة ظرفية قابلة للتبدل في أي مرحلة أو منعطف سياسي، وخصوصاً أننا في منطقة تغييرات لا تهدأ وصراع نفوذ في غاية الشراسة.هذه المقاربة المتوجسة التي بُنيت تحت وطأة ثقل أعوام الاحتلال والعجز عن محو صورة الصهيوني الذي «لا يُهزم»، أسقطتها الوقائع التي غيّرت كلياً منظور التعاطي الضيق مع الأمور، إلى آفاق جديدة أثّرت عميقاً في لبنان، الكيان والموقع والدور. وهذا يحتاج إلى معالجة بحثية متأنية، لا تسمح طبيعة الكتابة الحالية بالخوض فيها والإحاطة بمضامينها. لذا سنسلّط الضوء على نقاط نعتبرها أساسية في المرتكزات الوطنية التي ثبّتتها انتصارات المقاومة.
1 - معاناة لبنان في افتقاد أحد مرتكزات السيادة الوطنية منذ استقلاله أوجدت خللاً كيانياً كانت له تداعيات خطيرة. فالقوة الرادعة هي التي تؤمّن حماية للأرض والشعب، وتدفع نحو الاستقرار الفعلي، لا الهشّ الذي كان عنوان معاناة وطن منذ لحظة استقلاله وتفجّر مشكلة احتلال فلسطين والاعتداءات الصهيونية المتوالية التي كشفت عن ثغرة أساسية في اكتمال البناء اللبناني وحاجته إلى ركن القوة المفقود قسراً، نتيجة منع لبنان من تسليح جيشه وخضوع السياسيين فيه لفكرة قوة لبنان في ضعفه. كل هذا استطاعت المقاومة أن تغيره وتشكل انقلاباً في الصورة، وصولاً إلى لحظة الذروة عام 2000.
هذا الاكتمال التاريخي المميز لأركان قيام الدولة وامتلاك ناصية السيادة الفعلية، والانتقال من موقع الاستضعاف إلى مواقع توازن القوة مع العدو، تكرّس في محطتين أساسيتين: حرب تموز التأكيدية، ولاحقاً في حرب الدفاع ضد اجتياح وحوش العصابات التكفيرية التي حملت فكرة إبادة لبنان بمكوناته المختلفة وإسقاطه في أتون الهمجية المتوحشة.
هكذا أصبحت قوة لبنان المقاوم لازمة وجودية في ظل ارتفاع المخاطر في الإقليم، وضرورة استقرار لا يمكن تجاهلها، وقد تبلورت سياسياً في ثلاثية الجيش والشعب والمقاومة.
2 - استقرار الجنوب اللبناني يشكل جزءاً من الاستقرار العام، لكن خصوصية ما تعرض له منذ عام 1948 من العدو، وانعكاس ذلك على كل مقومات الحياة، جعل هذه المنطقة بأهلها متروكة تحت رحمة العدو ومسار أطماعه الجغرافية والمائية. كل ذلك، بعد المقاومة والتحرير، أصبح في خبر كان، وتكفي جولة واحدة في المناطق الجنوبية، وصولاً إلى الحدود لإدراك المعنى العميق الإنساني والوطني الذي ثبّته هذا التحرير، وفي طليعته الأمان الكامل والاستقرار والشعور بالندّية.
3 - أمّنت المقاومة منذ عام 2000 أرضية صلبة لاستقرار كياني ضد عدو وجودي، وهذا كان من شأنه توسيع آفاق الاستفادة اللبنانية منه بشكل مؤاتٍ بعيداً عن كل مجريات السياسة اليومية واصطفافات القوى وتوازناتها الإقليمية.
إلا أن الأحزاب والقوى المختلفة لم تحسن الاستفادة ولم تملك الحماسة للذهاب باتجاه التفكير ببناء حقيقي للدولة المرتكزة على عامل استقرار متين (بعيداً من كل التضارب الأيديولوجي والسياسي والكوارث التي مرت منذ اغتيال الشهيد الرئيس رفيق الحريري، إلى حرب تموز التأكيدية النهائية لتوازن القوة وغيرها من الأمور)، وذلك لأن الأمور ــــ ببساطة ــــ تحتاج إلى رجالات دولة وشخصيات وأحزاب تؤمن ببناء دولة (ليس برفع الشعارات فقط)، وهذا ما كان مفقوداً ولا يزال، لمصلحة الدولة المزرعة التي تغوّل أقطابها القدماء والجدد في تحويل الوطن إلى مزارع طائفية ومناطقية، ريعها الاقتصادي يعود لهم من خلال النهب المنظّم والفساد والإفساد لتصل الأمور إلى اللحظة الإفلاسية.
إن يداً تحمي وتدافع وتريد أن تبني لم تقابلها يد تريد أن تخطط معها لبناء الغد.
وقد كان المطلوب دوماً، في البعد الداخلي، منع حزب الله من عرقلة المشاريع الخاصة وتحويل أي انتقاد لفسادهم إلى مواجهة طائفية... وكل ذلك أوصلنا اليوم إلى معادلة عجيبة. ففي حين أننا، بعد 20 عاماً على التحرير، أصبحنا أكثر قوة ومهابة وجاهزية وقدرة على حماية وطننا من الرياح التي تعصف بالإقليم.... إلا أن جزء المعادلة الآخر يشهد سقوطاً مدوياً وفشلاً لكل سرديات السياسات الفاسدة التي لا يزال أبطالها هم أصحاب النفوذ الفعلي، ولا تزال مصالحهم تقودهم لا مصالح الوطن، وهم على استعداد لإطاحة كل مقومات الوطن للإبقاء على سلطتهم واستكمال الاستيلاء على ما تبقى من مصادر دخل أو أملاك للدولة. وإذا كان من بقية قوة لمشروع الدولة واحترام لوجودها، فهو بقدرتها الدفاعية والاستقرار الذي تؤمنه هذه القدرة...
إنها معركة سياسية طويلة الأمد تستحق خوضها، لكن من دون ادّعاء امتلاك الحلول السحرية أو إمكانية القضاء على كل هؤلاء الفاسدين ورميهم في البحر جميعاً... إنها معركة إرادات لا مجال للهزيمة فيها. المهم أن يتعلم الشعب، وليس فئة منه، الدرس جيداً. عندها يمكن لمسارات التحول البطيئة الحالية أن تشكل نافذة للتغيير الفعلي، ولبناء دولة في إداراتها وبناها المختلفة، واستكمال مقومات بناء وطن مستحق دُفعت من أجله دماء طاهرة أثمرت بمقاومتها وتضحياتها السيادة والتحرير...