في السياق الأمني المعتاد، كان احتدام الوضع السوري الميداني، وتسارع وتيرة المعارك، كما يحصل راهناً في محافظتَي إدلب وحلب، يثير الخشية الأمنية من احتمالات تسرّب مقاتلين من تنظيمات إرهابية الى لبنان، وخصوصاً أن هذا الموضوع يشكل مادة دسمة استخبارية على طاولة الوفود الأمنية الغربية التي تأتي الى لبنان مستفسرة عن تداعيات التطورات السورية وتفاصيل الإجراءات الأمنية على الحدود البرية والبحرية والجوية، ولا سيما في ظروف مشابهة تشهد عادة فرار مجموعات مسلحة. وهذا ما كان يجعل الأجهزة المختصة ترفع وتيرة حركتها وطلب مساعدتها الدولية في هذا المجال الأمني.المفارقة حالياً، في بلد يقف على خط الزلازل الإقليمية، من العراق الى سوريا، أن الأمن اللبناني يتحوّل بحسب عارفين، عن متابعة ملفات حساسة، كانت الأجهزة الأمنية الى وقت قريب تتغنّى بها، ولا سيما في مجالَي مكافحة الإرهاب والتجسّس لمصلحة إسرائيل، علماً بأن لبنان أصبح بفعل الفوضى الحالية ساحة خصبة للتوتر الأمني لأسباب داخلية أو خارجية، ومرشحاً بفعل الوضع المالي المتعثر الى إن يكون نموذجاً صالحاً لكل أنواع الفلتان. في الأيام الماضية، انشغل سياسيون بخبر بقي خارج التداول، عن توقيف مجموعة في إحدى بلدات جبل لبنان النائية، تناقلت المعلومات أن أفرادها هربوا من إدلب الى لبنان ويقيمون في منطقة نائية. وأمس، أكد الجيش أنه أحال 8 أشخاص إلى القضاء ينتمون الى تنظيمات إرهابية في سوريا، إضافة الى خمسة آخرين بالتّهم نفسها في مشاريع القاع. لكن أكثر من ذلك، يبدو انشغال الأجهزة الأمنية في مكان آخر، توقيف ناشطين وملاحقة آخرين وتأمين الحماية للنواب والمراجع الرسمية والمصارف.
ما حصل من صدامات في أنطلياس وجونية في اليومين الماضيين، يتعدّى كونه صداماً بين نائب ومتظاهرين. القضية أخذت بعداً مختلفاً سياسياً وطائفياً، ينذر بعقواب أوخم، نتيجة التشنّجات القائمة والأخطاء التي ارتكبت، وبعضها متعمّد ومقصود. إلا أن القضية فتحت العيون على منحى أمني بحت، بعد الاستنفار العسكري الذي حصل على يومين، لمنع تفاقم الوضع واشتعاله. فمنذ 17 تشرين الأول، والأجهزة الأمنية ترفع جاهزيّتها تبعاً لمتطلبات الوضع الميداني. ومع تغيّر منحى التظاهرات والصدامات التي أخذت أحياناً أبعاداً طائفية أو مذهبية، انغمست الأجهزة، التي اشتدّ التجاذب السياسي حولها، في يوميات الثورة، ولا سيما بعدما تحوّلت هذه الأجهزة إلى وسائل ضغط تتغيّر وتيرتها بحسب الظروف، وتستخدمها القوى النافذة ضد المتظاهرين. وبدا ذلك واضحاً في أداء بعض الضباط على الأرض، وخصوصاً في مناطق حساسة، سواء في بيروت أو خارجها.
لكن خطورة هذا الانغماس أنه سحب معه في شكل تدريجي الأجهزة الاستخبارية المعنية، كما سحب معه قادة القوى العسكرية والأمنية الى المربعات السياسية. إذ بات لدى أكثر من طرف معني خشية مبنية على معلومات بأن غالبية الجهد الأمني والاستخباري يتركّز في شكل فاعل على التظاهرات وعلى بعض الرموز التي باتت معروفة في ساحاتها. وهذا الأمر بدأ في شكل روتيني مع تطور الأحداث وقطع الطرق وبروز أسماء من كل الأطياف والانتماءات، وضعوا تحت مجهر الأمن لدى أجهزة المعلومات والاستخبارات في الأجهزة الأمنية. وتعدّت المتابعة كونها عملاً استخبارياً عادياً ومنطقياً في مثل هذه الأحداث، حول الخلفيات الحزبية وعمليات التمويل المحلية أو الخارجية، وحركة الاتصالات بين المجموعات، ولا سيما بعدما امتزجت ساحات التظاهر بين بيروت وجل الديب وطرابلس والجنوب والبقاع. وبسبب الانتماءات السياسية وولاءات ضباط على مستويات مختلفة لشخصيات سياسية نافذة ومؤثرة في الأجهزة الأمنية، حوّل هؤلاء ومعهم مسؤولون أمنيون، كل ما يحيط بالتظاهر إلى همّ رئيسيّ، في إعداد ملفات ومتابعة حصرية لبعض المجموعات وملاحقة تفاصيلها اليومية. والاهتمام يتعدى أولئك العاملين ميدانياً، إنما أيضاً كوادر فكرية وثقافية وسياسية أصبحوا الشغل الشاغل لبعض النافذين من ضباط.
ما يسمى «تهديد» السلم الأهلي ينحصر بالمتظاهرين ضد الطبقة الحاكمة والمصارف


ولم يكفِ الأجهزة الأمنية ذلك، إذ إنها أضافت الى مهماتها الأمنية تأمين الحماية للمصارف في وجه المطالبين بحقهم، ما ساهم بحسب بعض المطّلعين على أوضاع المصارف الداخلية في «تدجين» طبقة من المودعين لا تزال تتريّث في الانقلاب التام على المصارف. كذلك يدور كلام حول حماية غير مباشرة يؤمّنها بعض الضباط لمصرفيين، عدا عن حماية شركات الأمن الخاصة، وخصوصاً في ظل تبادل مصالح تؤمن من خلالها المصارف طلبات المسؤولين الأمنيين.
هذا التشابك الأمني يبرّره أمنيّون بأنه ضروري في مرحلة حساسة، خشية استغلال متظاهرين الوضع الميداني وتحويله إلى فتنة متنقلة، يضاف إليه التذرع بالعدد غير الكافي لمتابعة وافية لكل الملفات المطروحة على الطاولات الأمنية، ما يقدم ملفات على أخرى بحسب ما تقتضيه الظروف، من دون التخلّي عن مواضيع أساسية. الخطورة أن التنسيق عادة بين أجهزة أمنية، تختلف مهماتها اختلافاً جذرياً، يمكن أن يوزع مهمات الملفات الأمنية فلا تنشغل كلها في الاتجاه ذاته. كذلك فإن ما أصبح يسمى «تهديد» السلم الأهلي أو «الأمن القومي والوطني»، ينحصر بملاحقة متظاهرين ضد الطبقة السياسية والمصارف، رغم أن المعلومات الأمنية الخارجية لا تزال تركّز على المخاطر الإقليمية نفسها، يضاف إليها كل تبعات الانهيار المالي الحالي، الذي تستفيد عادة منه كل من كانت بيانات الأمن تتحدث عنه في مرحلة نشاط المجموعات الإرهابية، وتقديم الأجهزة نفسها رادعة لها.