أول من أمس، كانوا بضعة شبّان على جسر «الرينغ» يقطعون الطريق في الاتجاهين. شبان في العقدين الثاني والثالث، نزلوا للاحتجاج على رزمة الضرائب التي أذيعت عند الصباح، وأكدّها الوزراء المعنيون، على رأسها الضريبة على مكالمات «واتساب». نزل هؤلاء للاحتجاح أيضاً على تراخي اللبنانيين عن النزول. خال الإعلام والسلطة مجتمعين أن هؤلاء سرعان ما ستخمد صرخاتهم، ويعودون أدراجهم الى بيوتهم. لكن الذي حصل قلب التوقعات رأساً على عقب. أصرّ المحتجون مساءً على البقاء في الشارع، ونقل حركتهم من منطقة الى أخرى، وسط دعوة مباشرة وواضحة لبقية اللبنانيين الجالسين خلف شاشات هواتفهم إلى الالتحاق بهم. بعيد الساعة الثامنة من مساء أول من أمس، ولدى انتهاء غالبية نشرات الأخبار، بدأت حركة المعتصمين تتظهر على شاشات محدودة من ضمنها: «الجديد»، lbci وnbn، مع استكمال mtv برمجتها من دون أي التفات إلى ما يحصل في الشارع. أما otv، و«تلفزيون لبنان» و«المنار»، فقد واصلت على تجاهل الحدث، الى أن كبرت كرة الثلج، وازدادت الأعداد بشكل مهول، بخاصة بعد حادثة إطلاق مرافقي وزير التربية أكرم شهيب النار في الهواء ومحاولتهم ترهيب المعتصمين. لحظة حاسمة، استطاعت توليد المزيد من الشحن، والدفع بمزيد من اللبنانيين إلى النزول والمشاركة بكثافة. لعلّ صورة الشابة التي ركلت عنصراً أمنياً شاهراً سلاحه في وسط العاصمة اللبنانية، من دون خوف وبكل بأس وقوة، كانت أبرز مثال، على ما بات عليه الشارع اللبناني اليوم، من كسر لجدران الخوف، وحتى تحطيم تابوهات تخص الزعماء أو شخصيات سياسية.
نضال خيري ـ الأردن

هكذا، توزعت الاحتجاجات على المناطق اللبنانية، من الضاحية، والجنوب، والبقاع. نزل الناس الى الشارع، تشجعوا وكسروا الخوف، ودفعهم قهرهم إلى أن يمسكوا بأيادٍ أخرى. للمرة الأولى في لبنان، نكون أمام هذه المشهدية الفريدة المكوّنة من معتصمين ركلوا انتماءاتهم الحزبية والطائفية والمناطقية جانباً، ووحدتهم أوجاعهم وتراكم الأزمات الاقتصادية الواقعة على كاهلهم. هؤلاء ليسوا بمجموعة واحدة ولا يرأسهم قادة، ولا وجود لأي اتصال في ما بينهم، فقط نزلوا بعدما طفح الكيل وكفروا بالطبقة السياسية الحاكمة.
في المشهدية التلفزيونية أول من أمس، كان لافتاً المسار الذي أجبرت عليه القنوات المحلية، بعدما علت الصرخات في الشارع. قنوات قطعت برمجتها، ونزلت بمراسليها الى الميدان لنقل الحدث، كمحطة mtv، التي واكبت متأخرة قليلاً الحدث بعيد تكاثر الأعداد، وسقوط أي احتمال بأن تكون على شاكلة باقي التظاهرات التي شهدتها بيروت أخيراً، مع تسجيل لأداء مراسليها ومحاولتهم تضييع البوصلة، كإصرار جويس عقيقي مراراً، لدى استصراحها أي محتج، على سؤاله عن الجهة التي دفعته إلى النزول والاعتصام، أو كلامها صباحاً عن «نوعية المتظاهرين» الذين أتوا بالدراجات النارية، ويمكن أيضاً الإضاءة على ما وصف به آلان درغام (mtv) المتظاهرين بأنه يبدو عليهم «بأنهم مثقفون وخريجو جامعات» لدى مواكبته سيل المحتجين في شارع الحمرا.
بعد أكثر من ساعة تقريباً على تحرك الشارع، فُتح هواء «المنار» التي واكبت إلى ساعات الفجر الأولى ما يحصل في الشارع، والتزم التلفزيون الرسمي التجاهل الكليّ لغليان الأرض، فيما كانت otv، تؤخر التغطية، الى حين اتخاذها قرار فتح الهواء، لكن، من دون وجود مراسليها على الأرض. فقد اكتفت بنقل مباشر عن باقي زميلاتها، تحت ذريعة أن فريقها قد يتعرّض للاعتداء من قبل المتظاهرين. otv كانت من بين أكثر القنوات التي تعرّضت للتهكّم. نقلت صوراً لمحطات أخرى، وفتحت الهواء لمجموعة ناشطين وسياسيين ليعلقوا على الحدث. وأضحت اللقطة الأكثر تداولاً وسخرية، عندما أوقفت المحطة بث ما يجري على الأرض قرابة الساعة الثانية عشرة ليلاً، وبدأت بثّ حلقة معادة من برنامج الطبخ «تيتا لطيفة». استغل الناشطون هذه اللقطة، وسخروا منها كونها تأتي في لحظة يغلي فيها الشارع، فيما تركن بدورها الى تفضيل عرض الترفيه. وصباح أمس، سقطت ذريعة القناة البرتقالية، إذ شاهدنا مواكبتها للتظاهرات على الشاشة، ونزل مراسلوها الى الشوارع وأدلوا برسائل من هناك من دون تسجيل أي أذى لحق بهم.
مع التغطية التلفزيونية الحيّة المفتوحة ليل أول من أمس، حتى ساعات الفجر الأولى، احتل نقل وجع الناس المشهد، مع تسجيل لبعض الشواذات لدى تخصيص مساحات لافتة للسياسيين من قبل lbci، وبعدها mtv، في تكرار لسيناريوات سابقة في التعاطي مع أحداث مماثلة، والركون الى أصوات ليس مكانها على الشاشات بل في ميادين المساءلة.
مراسلة mtv تحدثت عن «نوعية المتظاهرين» الذين أتوا بالدراجات النارية!


ما يمكن الخروج به في هذه التغطيات، أنها كسرت حواجز الصمت والخوف لدى اللبنانيين بأطيافهم كافة، وحطمت أيضاً أجندات القنوات التي اضطرت صاغرة إلى النقل، تحت سوط المساءلة في حال تجاهل نبض الشارع. كذلك، كسرت قاعدة أن الكلمات البذيئة والشتائم يجب تجنّب نقلها على الهواء. فقد كان لافتاً، هذه المرة، عجز المراسلين/ ات، عن التحكم في الأرض وفي وجع الناس، فخرجت استصراحات كثيرة، لم تتوان عن توجيه الشتيمة والعبارات المسيئة للطبقة السياسية. فقد بات هذا الأمر جائزاً وطريقاً لتحطيم سلّم الخوف في التعاطي مع الساسة. الوحدة الوطنية اللبنانية تجلّت من دون أي اتفاق مسبق في كل المناطق، والتي لم يشهد بعضها أي حركة مشابهة منذ الحرب. كل ما حصل أول من أمس أفرز مشهدية فرضت نفسها على الإعلام ورجال السلطة الذين فضّلوا النأي بأنفسهم عن غضب الشارع، وتجنّب حتى التصريحات الإعلامية خوفاً من توليد غضب إضافي يحل على رؤوسهم، بعدما مُزّقت صورهم وبات الهجوم عليهم بالأسماء أمراً معتاداً على الشاشات، بعدما كان من «المحرّمات».



الإعلام السعودي يصوّب على المقاومة
فيما اللبنانيون يتوحّدون للمرة الأولى يداً بيد في وجه الطبقة السياسية الحاكمة من كل الأطياف، وفي كل المناطق اللبنانية من دون استثناء، لم تجد «العربية» سبيلاً لتنفيذ أجندتها ضد «حزب الله» سوى تعمدها في كل تقرير، وحتى في تغطيتها الميدانية إلى إبراز عبارة «حزب الله» وتصوير الاحتجاجات على أنها تنطلق من تلك المنطقة، وتتركز فيها دون سواها في تضليل واضح للحدث.
هكذا، ركزت الشبكة السعودية، على التظاهرات التي حدثت في الضاحية وراحت مراسلتها في بيروت غنوة يتيم، تستصرح المحتجين من هناك. لتخرج بتقرير معنون «ماذا قال أحد المتظاهرين في الضاحية الجنوبية لبيروت لنصر الله؟». تقرير وجّه اللوم إلى أمين عام «حزب الله» السيد حسن نصر الله، على غياب المحاسبة للفاسدين. كذلك، في تقارير أخرى، متفرقة، أصرّت «العربية» على وصف «الضاحية» بـ «معقل حزب الله»، والتركيز على هذه البقعة التي شهدت احتجاجات شعبية أول من أمس.