يكتب المؤرّخ الإسرائيلي إيلان بابيه، في سياق سرده عمليّات «تطهير الجليل» التي جرت عام 1948، أنّ «بليدا كانت آخر قرية جرى احتلالها خلال عمليّة حيرام. تُركت حتى النهاية لأنّ أهلها أظهروا عزماً شديداً في دفاعهم عن قريتهم. كانت قريبة جدّاً من الحدود اللبنانيّة (الفلسطينيّة)، وعبَر جنود لبنانيّون الحدود وقاتلوا إلى جانب القرويين». سبق ذلك سقوط قرى الجليل، الواحدة تلو الأخرى، وأخبار المجازر (كالجش وصلحا وحولا والصفصاف) تسابق وصول القوّات الغازية. كان ذلك قبل نحو نصف قرن مِن ولادة ياسر ضاهر، ابن قرية بليدا، الشاب العشريني الذي اغتالته إسرائيل في سوريا قبل نحو أسبوع. كان هناك يُهندس ما سوف يُسيّره فوق رؤوس أحفاد أولئك الغزاة. كأن روح جدّه، وقد امتزجت في روحه، تُخبره ألّا تنسى ما جرى علينا. لم يعش ياسر في بليدا، بل في بيروت، في ضاحيتها الجنوبيّة تحديداً، على غرار الكثير مِن العائلات الجنوبيّة التي هجّرها الاحتلال وظروفه.يُمكن رؤية صورة لياسر اليوم معلّقة داخل أحد محال الألعاب الإلكترونيّة، في منطقة برج البراجنة، علّقها صاحب المحل الذي لم يخرج بعد مِن دهشة أن ذاك الشاب الذي كان يأتيه كزبون، مع شقيقه وأصدقائه، كان مقاوماً وأنّه «واصل» إلى ذاك الحدّ. هذا المشهد يتكرّر كثيراً في هذه البيئة الاجتماعيّة مع شهداء المقاومة. في يوميّاته، هو كأيّ واحد مِن أبناء هذه البيئة. يعلم الناس لاحقاً ما كان عليه، بعد استشهاده، وهذا سلوك، على عفويته، لطالما لعب دوراً تعبوياً ــــ استقطابيّاً هناك. كان ياسر مِن محبّي ألعاب «بلاي ستايشن». يذهب مع شقيقه هادي إلى ذاك المحلّ للعب «بابجي» تحديداً. ستبقى ذكريات تلك الأيّام حاضرة في بال هادي، الذي يكبر ياسر بسنة واحدة، وقد التقيناه في بليدا مع عائلته حيث يقيمون مؤقتاً لتلقّي التعزية ــــ التهنئة.
ليس عاديّاً أن تجد والداً لا يكفّ عن التبسّم في عزاء ولده. نقترب منه، نسأله، وإن بشيء يقرب مِن الوقاحة، عن ذلك. يبتسم مرّة أخرى: «نحن ناس مؤمنين، هيدي الولاية، أنا وأمّو منعلّم ولادنا يفوتوا على هالخطّ مِن هنّي وصغار. هلق استشهد، ما في خاتمة أفضل مِن هيك». علينا ألا نستغرب كثيراً لعدم قدرة الإسرائيلي، أو حتّى سواه مِن خارج هذه المنظومة الاجتماعيّة، على فهم هذا الصنف مِن الناس. إنّه إيمان مِن نوع خاص. والد ياسر ليس قاسي القلب، لسنا أمام حالة عطب عاطفي، إذ سنعرف أنّه مِن الذين يبكون تأثراً أثناء مشاهدة فيلم درامي ما، وهكذا. عندما كان ابنه يدرس الهندسة في إيران، كان هو يسافر إلى هناك، مِن حين إلى آخر، ليطمئن عليه. ما هي أوّل صورة تتبادر إلى ذهنه عن ياسر عندما يتذكّره اليوم؟ يبتسم الأب، يرفع رأسه، ثم يقول: «كان فكاهياً، بتخايلو مثل دايماً لما بدو يطلب منّي شي كان يجي يمازحني، يعبطني ويبوسني». غاب ياسر عن أهله نحو أسبوعين، في عمله الخاص الذي لا يعرفون تفاصيله، ثم عاد إليهم. لم يجد والدته في المنزل، في الضاحية، كانت في قريتها البقاعيّة على أن تعود قريباً. كان حال المنزل «منعوفاً». أخبر شقيقه أنّه سوف «يشطف» الأرض. راهنه الأخير على ذلك، فنجح في الرهان، فعلها. دخّن النرجيلة أثناء استراحته. كان المتوقّع أن يبقى نحو أسبوع بين أهله، لكن جاءه اتصال «مِن العمل» وطلب مِنه العودة في اليوم التالي. أخبر والده أنّه سيغادر، هنا شعر الأخير «بشيء غريب». جرى الاتفاق أن يوصله الوالد بسيارته فجراً إلى مكان النقل العام، ومِن هناك يُكمل ياسر رحلته، لكن عندما استفاق لم يجد ولده. عرف أنّه غادر... للمرّة الأخيرة.
بداية، وصل إلى عائلة ياسر خبر استشهاد حسن زبيب، صديق ابنهم المقرّب مذ كان في المدرسة طفلاً، والذي لم يفارقه مذ ذاك، حتى في مرحلة التخصّص الجامعي خارج لبنان... وصولاً إلى اليوم الأخير. عرفوا أنّ ياسر، على الأرجح، قد استشهد، لأنّه لا يفارق حسن. تيقّنوا أخيراً. حسن ابن قرية النميريّة الجنوبيّة، إنّما، وعلى غرار ياسر، عاش حياته في الضاحية. يجلس الوالد عند مدخل المنزل في قريته، مستقبلاً الناس، بوجه سمح بسّام. سكينة تستفز السؤال: مِن أين لكم هذا الصبر! يقول: «شوف، نحن ناس مؤمنين، مش محبّين للموت، وولادنا مش عسكر بالفطرة، ولا نحن منحبهم يموتوا، هدفهم يعيشوا مثل كل الناس... بس جاي حدا يمنع عليهم يعيشوا مثل ما بدهم، مثل ما اختاروا، فهون لا، هون رح نقاتل، وقاتلنا ورح نقاتل». يعود الوالد في ذاكرته سنوات إلى الوراء، إلى أكثر اللحظات التي تجمعه بابنه وجدانيّاً، يوم كان حسن مراهقاً وقد أتى بعصفور بلبل واحتفظ به في المنزل داخل قفص. قال له الوالد: «مش حرام تحبسو بقفص»؟ عندما عاد مساءً وجد القفص فارغاً. اكتشف أنّ تلك الكلمة هزّت ابنه، وأنّه أطلق سراح البلبل، رغم حبّه للطيور. عند سرده هذه الحكاية تلتمع عيناه. لسبب ما هي تحفر في ذاكرته. كان حسن صبيَّ والده الوحيد. كان للفتى حبّ كبير للحيوانات. قبل مغادرته إلى «العمل» في المرّة الأخيرة، وبعد خبر استشهاده، عرفوا أنه اهتم بإطعام الأسماك التي يربّيها في «أكواريوم» صغير. اليوم تنظر العائلة إلى تلك الأسماك كما لم تنظر إليها سابقاً.
والد حسن أعدّ ابنه منذ صغره ليكون ما كان عليه. لم يُحب الفتى الأجواء الكشفيّة، كان يُريد شيئاً أكثر جديّة، فبدأ والده يلاحظ مسار تطوّر ولده. عندما كان طفلاً، لاحظه يأنس بخطب السيّد حسن نصر الله، إلى حدّ «لمّا كان يعصّب وبدنا نروقو، نخلّيه يسمع السيّد، يهدأ وينام». لم يكن عمره أكثر مِن سنوات أيام حرب تمّوز عام 2006. كان يُشارك في كلّ الأنشطة التي تُناسب عمره. أولئك الصغار الذين كان يُرينا إيّاهم حزب الله في نشاطاته، كمقاومين صغار، حسن كان أحدهم.
لم تفارق قلادة الأرزة اللبنانيّة عنق الشهيد حسن أثناء غربته في إيران للدراسة

ما عادوا صغاراً. كبروا وأصبحوا مهندسين وغير ذلك في المقاومة، ومِنهم مَن استُشهِد. يفتح الوالد هاتفه ويُرينا صورة أرسلها له أحد أصدقاء حسن أخيراً. يحمل العلم اللبناني مع مجموعة مشجعين يهتفون. تلك الصورة التقطت له أثناء إقامته في إيران للدراسة، وكان يُشجّع لاعب كرة القدم اللبناني علي حمام، الذي كان انتقل لتوه إلى إيران ليلعب في صفوف أحد أنديتها. كان حسن يضع في عنقه قلادة خريطة لبنان، طلبها مِنه مرّة أحد اللبنانيين المغتربين فأعطاه إياها، ثم استبدلها بقلادة أخرى على شكل أرزة. الغربة، أينما كانت، تبقى هي الغربة، والحنين إلى الأوطان مِن علامات الرشد، على ما قالت العرب قديماً ووثّقها الجاحظ، وأنّه «إذا كان الطائر يحنّ إلى أوكاره، فالإنسان أحقّ بأن يحنّ إلى أوطانه». قبل أكثر مِن 13 عاماً، اكتشف الوالد أن ابنه يُحبّ السباحة، ذلك عندما كان يصطحبه إلى نادي «أورينت بالاس» في الضاحية. كان دائماً يطلب مِن والده أخذه إلى هناك. بالتأكيد، ما كان لحسن نسيان أن إسرائيل دمّرت ذلك النادي عام 2006. في سنواته الأخيرة، مارس رياضة كمال الأجسام، رغباً منه في امتلاك عضلات مفتولة، وهو المشهور بين رفاقه منذ صغره بضعف بنيته. تحسنت حالة عضلاته قليلاً. كان فرحاً بذلك.
ياسر وحسن، شابان عاديّان جدّاً، ولدا هنا، وكان يمكن لكل شيء أن يكون مختلفاً لولا أنّهما ولدا هنا. كان يُمكن لحيوات ملايين سواهما أن تكون مختلفة، على مدى القرن الماضي، لولا أنّهم ولدوا هنا. وهذه الـ«هنا» تعني قرب «إسرائيل» التي عبثت بمستقبل منطقة، لكن فاتها ومَن معها أنّه دائماً سيكون هناك ياسر وحسن. قبل يومين، ردّت المقاومة على اغتيال الشابين بعملية عسكريّة، حملت اسميهما، في صلحا (إحدى القرى اللبنانيّة السبع المحتلّة). العدو يطلق على تلك المنطقة اسم «أفيفيم». مكان العمليّة قريب جدّاً من منزل عائلة الشهيد ضاهر، في بليدا الحدوديّة المجاورة، وفي تلك الأثناء كانت القرية تحيي ذكرى مرور أسبوع على الاستشهاد.