ليس حبّاً بذكر المجازر، لذاتها، وليس بدافع مِن مازوشيّة جماعيّة، كما ليس أنساً بانكسار لتأبيده... بل، وببساطة، لأنّ تلك الأشياء حصلت، ثم طُمِست أو تكاد. لأنّ ذاك الكيان، الإسرائيلي، الداخل اليوم في «صفقة عصر» لكسب شرعيّة، أخلاقيّة وأشياء أخرى، هو مَن فعل تلك المجازر، ولم يتنصّل مِنها... هذا إن كان للسيف أن يتنصّل مِن غمده. لأنّ هناك مِن ولد وشبّ على حياة، هنا، ولم يُحط بتلك الفظاعات علماً. لأنّ القاتل، الذي خرج عنده مَن أرّخ لأفعاله، نسبيّاً، فيما كان القتيل يُلملم ما بقي مِن حياة، ثم يُهمَل مِمّن أؤتمن على تلك الحياة. لأنّ هناك مَن قصّر، وهناك مَن استسهل، وهناك مَن ضحك أو بكى ورحل. لكلّ ذلك، وأكثر، نورد اليوم حكايات بعض تلك المجازر، على ضحالة ما في الأرشيف، فضلاً عن شحيح الذاكرة الشفويّة، بعد طول المدّة، ليعرف مَن لا يَعرف، اليوم، وليَعرف مَن سيأتي بعدنا، غداً، أنّ ذلك حصل، بعض مِمّا حصل، في تموز وأقرانه من أشهر وأيام وسنين وعقود.لو أنّ مهى شغّلت له محرّك الكهرباء، ذاك اليوم، لكان، على الأرجح، في عداد الشهداء. كان ذلك قبل أربعين سنة. رفضت طلبه لأنّ والدها كان قد أوصاها، خلافاً للعادة، بألّا تفعل. ربّما كانت، يومذاك، لا ترغب بذلك مِن نفسها فتذرّعت بوالدها. أيّاً يكن، يدين عصمت لمهى بحياته. بقي حيّاً. غادر مرفأ الأوازعي، حيث يعمل، إذ لا عمل له بلا تشغيل المحرّك. لم يكن قد ابتعد أكثر مِن مئة متر حتى رأى طائرة حربيّة، آتية مِن جهة الشمال، فتابعها بنظره قبل أن تُلقي ما يُدمّر المرفأ الصغير. دُمّرت كذلك منازل سكنيّة حوله. يذكر أنّ الطائرة جاءت مِن فوق فندق "السمرلاند". أكثر مِن غارة. عاد عصمت أدراجه إلى المكان. مهى تحت الركام. كان اسمها مهى حرفوش. صبيّة في مقتبل عمرها. أكثر مِن عشرين فرداً، مِن عائلتها، كانوا معها تحت الركام. بحث عصمت عن رفيقه، مِن آل منصور، فإذا بالغارة قد مزّقت جسده. الحصيلة: ثلاثون شهيداً تقريباً وعشرات الجرحى (هنا مفردة تقريباً تأتي ضمناً). كانوا أطفالاً ونساء ورجالاً. هذه حصيلة مجزرة الأوزاعي، جنوبي بيروت، في 15 آذار مِن عام 1978. كان ذلك بداية الاجتياح الإسرائيلي الأوّل للبنان.
مرفأ الأوزاعي بعد إعادة بنائه إثر عدوان تموز 2006 (هيثم الموسوي)

في سجلّ المجازر الإسرائيليّة، بحق لبنان، تُنافِس الأوزاعي هذه على لقب أكثر المجازر غموضاً، أو، بمعنى أدق، أكثر المجازر إهمالاً للتأريخ. في الإنترنت، على وسعه، لا تفاصيل سوى 30 شهيداً (تقريباً) ووحدات سكنيّة مدمّرة. في أرشيف الصحف، بحدود المتاح، لا تفاصيل أكثر. ثلاثون بشريّاً بلا هويّات. بلا أسماء. عصمت زين الدين ما زال حيّاً، ويروي: كانوا، في أكثرهم، مِن آل حرفوش. كانوا في تلك المنطقة ضمن ما يُشبه التجمّع السكني الخاص بهم. بعد المجزرة، غادر لبنان أكثر مَن بقي مِنهم حيّاً. سافروا، ولم نعد نسمع عنهم شيئاً.
عصمت يفكّ شيئاً مِن اللغز. أقلّه صرنا نعرف شيئاً عن هويّة المقتولين، ولو مجرّد اسم العائلة، فيما نعلم يقيناً هويّة القاتل. في ذاك العام كانت الحرب الأهليّة قد شارفت على إكمال عامها الثالث. الدولة في خبر كان، إن كان مِن خبر أصلاً، والويلات في كلّ مكان. الأوزاعي ليست قرية بذاتها، بل أكثر سكّانها، إلى اليوم، هم مِن الأرياف البعيدة. هذه تزيد مِن شائكة البحث عن تفاصيل ما جرى. كثيرون مِن قاطني المنطقة، اليوم، لا يعلمون أن مجزرة حصلت هنا. في هذه المنطقة، دوماً، يذهب مقيمون ويأتي آخرون مِن مناطق مختلفة. الوصول إلى الشاهد الحيّ لم يكن سهلاً، فبعد إرشادنا مِن قبل العقيد محمد ضامن، قائد سرية الضاحية في قوى الأمن الداخلي، إلى أبو كريم ناصر، الرجل العتيق مع عائلته في المنطقة، أرشدنا الأخير إلى عصمت المقيم في برج البراجنة. أصبح ستّينيّاً، لكنّه ما زال يأتي إلى المرفأ: البحر في دمي.
كان عصمت، في عام المجزرة، عنصراً في حركة فتح الفلسطينيّة. كانت حركته تنشط في مرفأ الأوزاعي، كجزء مِن النسيج الاجتماعي في المنطقة اللبنانيّة، واليوم، أثناء الحديث معه، يقطع السياق فجأة ليُردّد: "بلادي بلادي، فتح ثورة على الأعادي". يبتسم، روحه مرحة، ويتابع حديثه. في تلك المجزرة، يجزم بأنّ القصف لم يصب إلا عنصراً واحداً مِن حركة فتح، هو ذاك الذي مِن آل منصور، أمّا الجميع فكانوا مِن المدنيين (آل حرفوش وآخرين). عصمت لبناني، مِن مواليد برج البراجنة، ولا تفارق قبّعة الصيّاد رأسه، حتّى داخل المنزل. يستقبل بها زوّاره. هذه هويّته: بحري. ويستذكر: "في الليلة التي سبقت المجزرة، كنت في المرفأ وسمعت صوت طائرة مروحيّة قريبة، فأخبرت المسؤولين. كانوا يعرفون أنّ ثمة ما سيحصل. طلبوا إخلاء المكان، فحصل ذلك. بقيت أنا وزميلي الآخر. كثيرون أخلوا المنطقة باستثناء آل حرفوش. كانت هناك عائلات شيوعيّة في المحيط، مِن آل المقداد تحديداً، فدُمّرت بيوتهم أيضاً بعدما كانوا قد أخلوها. المنطقة أصبحت ركاماً". هو يتحدّث عن مرفأ الأوزاعي، الذي كان موقعه قريباً مِن موقع المرفأ الحالي، لكنه أصغر مساحة وأقل حركة مِمّا هو عليه اليوم. المنازل، قبل 40 سنة، كانت قريبة مِن المرفأ، لكنّها لم تكن ضمنه، والجميع يعلم أنّها منازل سكنيّة لمدنيين. هذا تفصيل سخيف عند الإسرائيليين. الطائرات قصفت كلّ شيء.
ثلاثون شهيداً، أكثرهم مِن آل حرفوش، هم حصيلة تلك المجزرة، إضافة إلى الجرحى والدمار


أُثيرت آنذاك، بُعيد الاجتياح (ما سُمّي عمليّة الليطاني)، مسألة استخدام سلاح الجو الإسرائيلي للقنابل الانشطاريّة. بدأ يومها ذاك النقاش السخيف حول أخلاقيّة الأمر وما شاكل. قيل إنّه كانت هناك اتفاقيّة (سريّة) بين الولايات المتّحدة الأميركيّة وإسرائيل بشأن وجهة استخدام تلك القنابل. متحدّث باسم وزارة الخارجيّة الأميركيّة صرّح بأنّ «إسرائيل أوضحت لنا أنّها تنظر إلى العمليّة على أنّها دفاع عن النفس، واتفاقات شراء الأسلحة تحظر استخدام الأعتدة المتطوّرة لدواعي الهجوم، ولكنّها تسمح باستخدامها لدواعي الدفاع». هكذا، إنّهم دائماً يُدافعون. كم كُرّرت مثل هذه التصريحات منذ ما قبل 40 عاماً وإلى اليوم؟ نعثر على تصريح، بعد مجازر تلك العمليّة، للرئيس الأميركي جيمي كارتر، وفيه: «إن إسرائيل قادرة على الدفاع عن نفسها بالسلاح التقليدي، في وجه أيّ هجوم محتمل، سواء اليوم أو في السنين المقبلة... إسرائيل ستكون قويّة بما فيه الكفاية للدفاع عن نفسها الآن وفي المستقبل المنظور». كارتر هذا، بعد انتهاء ولايته، أصبح يُدير مركزاً لـ«محبّي الخير والسلام»... حتّى إنّه نال جائرة نوبل للسلام بسبب «سلميّته»، إضافة إلى «تعزيزه الديمقراطيّة» (في العالم) وما إلى ذلك.
ننقل هذه التصريحات إلى عصمت زين الدين. ينفث دخان سيجارته ويبتسم. لا تعنيه شيئاً. هو ابن تلك الحقبة ولا يُريد سماع المزيد مِن التصريحات لكارتر أو سارتر. يكتفي بالعيش مع ذكريات شبابه. يستذكر حادثة تضحكه. في اليوم التالي للمجزرة، ذهب إلى المكان ووجد مع رفاقه صاروخاً لم ينفجر. كان في المحيط بعض المنازل التي لم تهبط تماماً، لكن تصدّعت، فقرّر الرفاق تفجير الصاروخ في مكانه، وإذا بالمنازل المتصدّعة تنهار تماماً: «كان الصوت مدويّاً، وقد ظنّ البعض أنّ الطائرات عادت. كان شغل على البرَكة». الغارات الإسرائيليّة دمّرت نحو 30 وحدة سكنيّة، إضافة إلى مطعمين وفرن، هذه حفظها الأرشيف. يُخرِج عصمت بضع صور له، مِن تلك الحقبة، وهو يحمل سلاحه في الأوزاعي. إحداها مكبّرة، وقد علّقها في صدر منزله.
ما زال عصمت بحّاراً، وسيبقى إلى آخر عمره. كم نسخة عايش مِن مرفأ الأوزاعي؟ كان شاهداً على قصف المكان، إيّاه، عام 2006 مرّة أخرى. دُمِّر المرفأ مُجدّداً، في تموز مِن العام المذكور، فأعيد البناء. يضجّ المرفأ اليوم بالحياة. مراكب الصيّادين تتمايل. حركة بيع السمك نشطة. ما زال الفتى، وقد أصبح كهلاً، يرتاد المكان ويدعو لمهى حرفوش بالرحمة. تلك الفتاة التي أغضبته قبل 40 سنة، إذ لم تُشغّل له المحرّك، فغادر المكان... ليكسب عيش أربعة عقود إضافيّة.