فيما شاهد اللبنانيون، بذهول، فيديو الاعتداء من قبل سعدان مستفرس على جورج الريف وتعذيبه العلني وصولاً الى اعدامه كما سيتضح في ما بعد، علّق البعض على وسائل التواصل الالكتروني على انعدام المسؤولية عند المارة الذين اكتفوا بالمشاهدة، بمن فيهم بعض من موظّفي الامن الخاص. لكن اللوم هذا في غير محلّه، برأينا، ويستر بعضاً من واقع الحادثة. ومسلسل تطوّر الاحداث اعطى الكثيرين الشعور بأن المجتمع بأكمله، مجتمع الناس الضعاف، في حالة حرب. والشعور هذا في محلّه.
والواقع انه، في مجتمع «مسالم»، وهو النموذج القانوني ــــ الاجتماعي الكامن وراء اغلب المؤسسات الرسمية وغير الرسمية القائمة في لبنان، لا يمكن للمرء ان يتوقّع من المارة او حتى من العاملين في الامن الخاص اتبّاع سلوك بطولي. في هكذا مجتمع، حيث جرى اختراع وظيفة الامن الخاص، وعقلنة تصميم ثوبه وانتشاره، وتحديد معاشه الدوني والزهيد، تقوم سردية الوظيفة على مبدأ ان المعتدي سيهرب حتماً بعد ارتكابه اعتداءه. الامن الخاص قد يحاول ان يُبطىء من مسار المعتدي في الهرب في انتظار ان تأتي الشرطة. لكن تدخل الشرطة لم يحصل في حادثة اعتداء السعدان الهائج على جورج الريف وزوجته. وموظفّو الامن الخاص، المنتسبون الى الطبقات الفقيرة، الذين يمضون اغلب اوقاتهم في الشارع، هم في افضل موقع لتلمّس هذا الواقع وفهمه. ولما علمنا، نحن المشاهدين، من شهادة زوجة جورج في الاعلام بأنها وزوجها اتصلا بالقوى الامنية ولم يحصلا على «جواب شافٍ» (اذ «نُصحا» بتسجيل رقم سيارة المعتدي واخذ الموضوع الى المخفر) لأن ليس هناك من درّاج في المنطقة، يعرف موظّفو الامن الخاص وابناء الطبقات الاكثر هشاشة في المجتمع انه لا يمكن الاتكال على الشرطة في تحقيق العدالة، وانه في حال وجد سعدان مفترس في حالة هيجان، وغير مستعجلٍ وآبهٍ للاختباء بين الاشجار، على المرء ان يزيح عن طريقه وبسرعة. ففجر كوكب القردة بدأ منذ زمن طويل في لبنان.

التعاطف حول
الحدث من الصنف الذي اطلق الانتفاضات في تونس ومصر

لكن في الحرب الدائرة شيء لطيف ومميز عادةً يحصل، اذ يلتقي الناس من مشارب اجتماعية متنوعة، واحياناً متصارعة، على ادانة الحثالة، يتراصون في الخندق نفسه وــــ هنا المفارقة ــــ يختارون الخندق «الخاسر» حتى نهاية الرواية الاعلامية. بينما في الخلافات الاجتماعية والاحداث الاعلامية الاخرى، غالباً ما يكون «الضحايا» بين الناس هم من يأخذون موقفاً مع الضعفاء، فالمِثلي يتعاطف مع الفقير، والفقير يتعاطف مع المُحجّبة، والمُحجبة تتعاطف مع النساء، فيما اغلب الناس الآخرين يلجؤون الى اثارة كل ما يمكنه ان يُعلي من مقامهم او موقعهم الاجتماعي، الى درجة يضيع فيها الموضوع في اغلب الاحيان ليصير موضع صراعات اخرى.
في هذه الحرب، الحدود والخنادق مرسومة بشكل واضح، ربما اكثر من حدود الصراع مع «داعش». هي حرب ذاق الجميع طعمها المر في لحظة ما من حياتهم اليومية. وفيديو حادثة الاعتداء خير دليلٍ على كيفية حصول هذا الصنف من الحروب: مثل الظروف مع «داعش»، لا يحتاج الامر الى الكثير من السعادين لممارسة عنف قاس ومعه سيطرة مطلقة على شعب بأكمله. في سوريا، قد يصل العدد الاقصى للسعادين المتحاربين من الجهتين الى اربعمئة الف، وانا لا احسب طبعاً مقاومي حزب الله ضمن هذه السلّة. هؤلاء الاربعمئة الف يسيّرون حياة العشرين مليوناً المتبقّين. كذلك كان الامر خلال الحرب الاهلية اللبنانية.
في هذه الحرب، تبرز طبعاً طبقة من الطفيليات لتأخذ دوراً بارزاً. والصحافة عامة خير مُنطلق لهؤلاء. لا شيء مميّزاً هنا، واذكر انني شخصياً، عند انتهائي من مشاهدة الفيديو، زاد تعصيبي من الاعتقاد بأن السعدان الهائج هو من «شيعة» السجل، لأن حدسي تكوّن على توقّع استغلال هذه التفاصيل من قبل الاعلام اللبناني السخيف والعميل. وانا من النوع الذي يأخذ السخافات التي يقولها الاعلام على محمل الجد، مع بعض الضغينة. ولحسن الحظ اتضحت «مسيحية» السعدان الهائج، و»مسيحية» عرّابه المفترض. لكن لسوء حظّ الاعلامية السابقة مي شدياق، لم تصلها هذه المعلومة. ربما لأن شدياق لم تعد تعمل في مكتب وسيلة اعلامية، حيث يتم تداول المعلومات والخبريات والسخافة بشكل دسم ومنتظم، وحيث كان يمكن ابلاغها بالتفصيل التقني عند اتّضاحه. فذهبت مسلّحة بغريزتها المُكتسبة من مهنتها وحدها، وقالت ما قالته من كلام يدعو الى القسمة الاجتماعية بين الناس، كما تفعل دائماً. قد يقول لي احدكم «ولكن لماذا التعميم على مهنة بأكملها؟ وهذه حالة استثنائية». لكن الواقع هو ان مهارات شدياق المِهنية، تحديداً، هي التي اوقعتها «في الحفرة التي حفرتها»، كما عنون موقع التيار الوطني الحر خبر كلامها ناسياً ان مجمل هذه المهنة تعيش وتتغذى في حفرة. هكذا يعمل ويفكّر ويتنفس هذا الصنف من الفاسدين، وكنية وظيفتهم كما سمعتهم وانتاجهم (الدسم) ليس فيها ذرة شرف لكي يعفيهم المرء من التعميمات التي يطلقونها يومياً على فئات المجتمع الضعيفة. واذا كان هناك في هذه الوظيفة من اراد ان يقول بعكس ذلك، فأمامه طريق طويل وشاق لاثبات ذلك، ونرجو منه اعفاء من اراد ان ينتقد طغيان هذا المستنقع على الحياة الثقافية من دروس الديونتولوجيا التي نبشها في ويكيبيديا.
فقط في حياة أفقها الركوع والتزلّف يمكن للمرء ان يفقد تركيزه على البديهيات، مثل تكوّن رابطة تعاطف بين الناس، فيطلق عنانه للترهات الطائفية التي، للامانة، يجرّمها القانون. لكن اين القانون من هذه الحرب، فيما انه عندما نشر موقع التيار خبراً عن احتمال ضلوع رجل الاعمال انطون صحناوي بحماية السعدان الجاني، ردّت شدياق «شو خص انطون المسافر من اشهر اذا مرافقه ارتكب جريمة». حسناً، اذا كان هذا منطقكِ، فما دخل بشار الاسد بمحاولة اغتيالك وهو الذي يعيش في غير بلد؟ لكن دعنا من المنطق عندما يكون «انطون» في دائرة الاتهام، واقصد هنا الصفة الحميمية للاسم وليس الطائفية على طريقة الشدياق. ومعلومات شدياق عن ضلوع رجل الاعمال في حماية القاتل بقدر معلوماتنا، تحتاج للتحقق منها، لكن ما علينا، فالميليونير، او البيليونير، او سمّه ما شئت، هو دائماً فوق الشبهات، ولا حاجة للتحقق من شيء.
ان رابطة التعاطف والتعاضد حول حدث مثل الذي حصل لا يجب ان يستهان بها. هي رابطات من هذا الصنف التي اطلقت الانتفاضات الشعبية في تونس ومصر في عام 2011، بحكم قدرتها على جمع الناس من فئات متنوّعة، والتي تفتح الباب نحو التغيير الاجتماعي اذا ما تلقّفها حزب عازم ومنظّم، وهو على سبيل المثال، ما فعله حزب الله بحسب رواته مع قصف الجيش للضاحية الجنوبية في الثمانينات. لكن الاعلامية السابقة شدياق غير معنية بجمع الناس وبتنوعهم، او بالتغيير الاجتماعي. هي مكتفية بلزوم الكسروان والمتن طوال حياتها في حين ان السعدان الداعشي الذي يعيش في جوارها يعمل من اجل خلق امبراطورية، وغيرها من اللبنانيين يكاد يموت سرطاناً من الضجر امام ضيق الآفاق الحياتية المعروضة.

في حياة أفقها
الركوع والتزلّف يمكن للمرء ان يطلق عنانه للترهات الطائفية
قد يعطيها التيار الوطني الحر يوماً ما، عند نضوج دورته الباسيلية، المساحة الفدرالية التي «تترحّم» عليها، لكن الارجح ان المستقبل سيتسم بمنطق «كل واحد لذاته» الساري الآن بشكل تصاعدي، اذ ليس هناك من حزب قوي وعازم بما فيه الكفاية للسيطرة الكاملة والمتمكّنة على الدولة والنظام السياسي. والاحتمال اصعب بالنسبة لتأسيس دولة فدرالية. ومع انحصار كل واحد لمساحة ذاته، قد نجد يوماً السعادين المفترسين بلباس موظفي الامن الخاص ــــ وهو الامر الحاصل حالياً في بعض الحالات منها حال سعدان حادثتنا ــــ ومفهوم الامن الخاص يتحوّل الى مفهوم المرتزقة. ولن يُسَرّ حينها الجمهور كثيراً اذا ما «تدخّل» الامن الخاص. وكل هذا فيما داعش والقاعدة لا يزالان خارج الحدود الوطنية.
في فيديو آخر نشر على الفايسبوك وصوّره احد الحاضرين في التجمّع الذي نظمّته عائلة جورج في الاشرفية على مقربة من منزل رجل الاعمال، التقطت الكاميرا القوى الامنية التي حالت دون وصول المجتمعين الى المنزل، وقد بدت على وجوه الدركيين آثار حَرَجٍ واكاد اقول حزنٍ شديد، بينما وقفت امامهم زوجة جورج ومعها اطفالهما تطلب منهم السماح لها بالمرور. هل هؤلاء الجنود هم «شيعة»؟ شيعة علي؟ او ربما «سنة»، من اهل السنة والجماعة يعني، وقد قيل ان الفريق الحريري ادخل الآلاف منهم الى السلك الدركي للحفاظ على التوازنات. ام انهم «مسيحيون»، حيث ان العرف بين السياسيين المهيمنين قد يقضي بارسال «مسيحيين» الى المناطق «المسيحية» والخ؟ ام ان طائفتهم لمن شاهد الفيديو ليست بالمهمة تماماً واساساً. بين المتظاهرين، كانت الاصوات الواعية ترتفع لتقول «لحظة يا عمّي هول عندهم أوامر»، وكان بادياً للجميع ان الجنود في خندق المتظاهرين، ولم يشعر احدهم بالحاجة ليزيد من حدة استفزازه للجنود. هذا المشهد يكمّل مشهد الاعتداء ويضع الامور في نصابها، حيث ان الخنادق اصبحت واضحة، والناس فيها من جهة، وامامها اصحاب النفوذ وازلامهم، ووراءها الاعلام وما سيقال عما حدث.