بعدَ انتهاء أزمة الفراغ الرئاسي، برزت أزمة قانون الانتخابات، ما يُهدّد بفراغ تشريعي نيابي مع تعثّر المشاورات الرامية إلى التوصل إلى قانون انتخابي جديد. وقد بات هذا المصير المُحتمل، فكرة مستساغة، وكأنه أمر طبيعي. علماً بأن لبنان في تاريخه الحديث لم يشهد ولا مرّة فراغاً فعلياً في السلطة التشريعية، ولو أنها عاشته بشكل مقنّع على صورة تمديد.
«ما هو الفراغ البرلماني؟» سؤالٌ يُغري للغوص فيه، فيتبين أن رئيس الجمهورية ميشال عون ليس أول من تحدّث عنه وهدّد به، واعتبره البعض انقلاباً وتهديداً للطائف. وهذا البعض هو نفسه من غضّ النظر حين كانت «الضرورات» تجعل منه فراغاً بالحلال، ما دام يأتي على نواب الأمة بالمنفعة. التاريخ يشهد على ذلك.
في الثلاثينيات والأربعينيات، سار لبنان مُكرهاً نحو الفراغ البرلماني، بقرار من سلطات الانتداب الفرنسي.

في ظل الانتداب الفرنسي، سار لبنان مُكرَهاً نحو الفراغ البرلماني


هكذا حصل عام 1932. آنذاك، لم تكن المفوضية الفرنسية مُستعدة للموافقة على انتخاب مُسلم لرئاسة الجمهورية. طلبت من المرشّح محمد الجسر الانسحاب، فرفض واستمر في المعركة، الأمر الذي دفع المندوب السامي الفرنسي بونسو، إلى التدخل وإصدار قرار بتعليق الدستور وحلّ المجلس النيابي. وتكرّر الأمر مرة ثانية عام 1939 عشية الحرب العالمية الثانية. وثالثة لفترة قصيرة بأمر من المفوض السامي هيللو، في 11 تشرين الثاني عام 1943، حتى عادت الحياة البرلمانية في 22 من الشهر ذاته، تاريخ الاستقلال.
ومنذ الاستقلال، لم يشهد لبنان أي حالة فراغ تشريعي، ولو أنه اختبر فراغاً من نوع آخر في مجلس النواب. هنا يُمكن العودة إلى ما قاله رئيس مجلس النواب نبيه برّي منذ أيام بأن التمديد والفراغ سيّان، لتأكيد أن لبنان عاش منذ الاستقلال حتى بداية التسعينيات فراغاً مقنعاً في عدد من المراحل. حتى عام 1976 كانت الانتخابات النيابية تجري في مواعيدها، قبل أن يدخل القاموس اللبناني مُصطلح التمديد الذي تكرّر 6 مرّات منذ ذلك التاريخ، وصولاً إلى عام 1990 حين جرى تعيين ملء الشواغر بالتعيين لنحو 22 مقعداً نيابياً. وقد كان مقرراً انتهاء ولايته في عام 1994، قبل أن يجتمع المجلس ويقرر تقصير ولايته، وإجراء الانتخابات مجدداً عام 1992 بسبب اتفاق الطائف ورفع عدد النواب إلى 128، وانتخاب برّي رئيساً للبرلمان.
حالياً تواجه البلاد خطر الشغور النيابي، لتعذّر الاتفاق حول قانون جديد. وفي ظل الرفض القاطع لإجرائها وفق قانون الستين، أو التمديد مجدداً للنواب كما حصل عام 2013، يطلّ الفراغ النيابي برأسه كأحد أقوى الطرق جاذبية للسير نحوه. قد لا يعي كُثر أن الوقت ليس في مصلحة أحد، وأنه مع انتهاء المهل القانونية، وعدم اجتماع الهيئة العامة للتمديد، فإن المجلس بعد تاريخ 20 حزيران ستسقط عنه كل صفة دستورية. لا تشريع ولا محاسبة ولا انتخاب. فهل سنصل إلى الفراغ فعلاً؟ ومن سيحلّ محل المجلس النيابي؟ وهل صحيح أنه في ظل وجود رئيس للجمهورية وللحكومة لن يكون هناك أي إشكالية؟ يقطع قانونيون هذا الجدل. يلفتون إلى أن نص المادة 62 من الدستور تقول إنه في حال الشغور الرئاسي، تُناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالةً بمجلس الوزراء. كذلك فإنه في حال الفراغ الحكومي، تستمر حكومة تصريف الأعمال في مهماتها إلى حين تأليف حكومة جديدة. غير أنه لا مادة في الدستور تنصّ على أنه في حال الشغور البرلماني، يُمكن الحكومة أو رئيس الجمهورية أو أي هيئة أخرى أن تحلّ محلّ مجلس النواب، أو تولّي السلطة التشريعية، التي تمتلك صلاحيات سياسية، ورقابية، وتشريعية، وانتخابية وتأسيسية.
نص واحد في الدستور أتى على فكرة حلّ البرلمان، لكن في ظروف خاصة. المادة 55 من الدستور تقول إنه «يعود لرئيس الجمهورية الطلب إلى مجلس الوزراء حلّ مجلس النواب قبل انتهاء عهد النيابة. فإذا قرّر مجلس الوزراء بناءً على ذلك، حلّ المجلس، يُصدر رئيس الجمهورية مرسوم الحلّ. وفي هذه الحال تجتمع الهيئات الانتخابية وفقاً لأحكام المادة 25، ويُدعى المجلس الجديد للاجتماع في خلال الأيام الخمسة عشر التي تلي إعلان الانتخاب. وتستمر هيئة مكتب المجلس في تصريف الأعمال حتى انتخاب مجلس جديد. وفي حال عدم إجراء الانتخابات ضمن المهل القانونية المنصوص عليها، يعتبر مرسوم الحلّ باطلاً، ويعود المجلس القديم إلى ممارسة صلاحياته». هنا يفصل القانونيون بين حلّ المجلس والفراغ، معتبرين أن استمرار عمل هيئة المكتب مرتبط بحل المجلس، لا بالفراغ الناتج عن عدم إجراء الانتخابات». وفي حالة حل المجلس، فإن فترة الشغور التي تستمر فيها هيئة المكتب بتصريف الأعمال تقتصر على 3 أشهر كحد أقصى، بحسب المادة 25 من الدستور. وبحسب القانونيين، فإنه «في حال انتهاء ولاية المجلس، ستسقط كل صفة دستورية عنه. وبذلك نكون قد دخلنا مجدداً في مسار سياسي ودستوري عنوانه الفراغ، لا يمكن أحداً أن يتكهّن بكيفية الخروج منه أو النتائج التي قد تنتج منها». وهنا لا بد من الإشارة إلى نقطة أساسية، هي أن النظام اللبناني نظام برلماني، ما يعني أن شغور المجلس النيابي لم يكن في حسبان واضعي الدستور، لكونه يضرب أسس النظام، ويجعل شرعيته برمّتها على المحك.