لم تعد المواجهة متكافئة بين الإرهابيين والضحايا. المحصلة اليوم، على مستوى الغرب، أو حتى العالم، أن ميزان القوى بات لصالح الإرهابيين. أصلاً، لا يمكن مقارنة المقياسين المختلفين. بين قوة الدول والمجتمعات من جهة، وقوة الإرهاب الإسلاموي من جهة أخرى. مذبحة نيس نموذج صارخ. شخص واحد، يستأجر شاحنة بمئة يورو، أقل أو أكثر. فيصيران معاً سلاحاً يفتك بنحو مئتي إنسان. كل الأمثلة الأخرى تؤكد الأمر. لا يمكن ربح المعركة مع الإرهاب بواسطة الإجراءات الأمنية ولا الاحتياطات البوليسية ولا عمل الأجهزة الرسمية والدولتية ولا أي مواجهة تقليدية أخرى.أصلاً، واضح أن العالم بات يدرك هذه الحقيقة. يكفي دليلاً على ذلك هذا الإرباك المخزي لكل صنّاع رأيه وقراراته، في التعامل مع المذبحة. فرانسوا هولاند وقف متكلّماً من دون من يصغى إليه، وصولاً حتى صفير الاستهجان لمجرد إطلالته. فيما كريستيان أمانبور، سيدة الـ "سي إن إن" المخضرمة، تجهد نفسها وهي تحلل عن غياب فرص العمل للمهاجرين الفرنسيين القاطنين في أحزمة البؤس الفرنسية، بحسب قراءتها.
طبعاً لا يجرؤ الرئيس الفرنسي على كشف ما كتب في بلاده عن جذور الإرهاب الإسلاموي ومصادره الفكرية والتمويلية. وطبعاً، لم تجهد صاحبة "البرنامج" نفسها لتتذكر وتذكر، بأن الذين نفذوا مذبحة 11 أيلول لم يكونوا من الفقراء ولا المعوزين ولا الآتين من ضواحي الهجرة. بل من نوع آخر مختلف جوهرياً، اسمه التكفير والهجرة.
الإعلام الغربي، وخصوصاً الأميركي، في تياره المركزي الساحق في منطقة نيو إنغلند، ينسى أو يتناسى أن بلاده ألقت في حرب فييتنام قوة نارية توازي ثلاثة أضعاف ما استخدم من قوة نار في الحرب العالمية الثانية. لكن رغم ذلك لم يدهس أي فييتنامي مقهور مظلوم محتل أو مستضعف، أي مدني أميركي أو غربي في أي ناحية من العالم. أكثر من ذلك، كأن العقل الغربي بكامله، يدرك في وعيه أو لا وعيه، مسؤوليته في مكان ما، عن هذا الإرهاب بالذات. فتراه ينحاز في تحليله إلى كل القراءات التي تبرره وتعطيه الذرائع وتتعامى عن حقيقة مسبّباته وجذوره.
لم يتذكر أي من هؤلاء أن رجلاً أوصى إرهابييه قائلاً: "اقتلوا الكفار في أمريكا وأوروبا، خاصة في فرنسا، وفي أستراليا وكندا، وكل مواطني الدول التي التحقت بالتحالف الدولي ضد الدولة الإسلامية... اقتلوهم بأي طريقة... حطّموا رؤوسهم بالحجارة، أو اطعنوهم بالسكين، أو ادهسوهم بسياراتكم، أو ألقوهم من مكان عال"... رجل اسمه أبو محمد العدناني. وظيفته وزير الهجمات الخارجية في "داعش". وسنده الإلهي قول فهمه بحسب فهم خليفته، ولم يفهمه أي غربي بعد، أن "اقتلوهم حيث ثقفتموهم".
هكذا بكل تجاهل فكري وعقلي وعلمي مقصود، قرّر الغرب أن يعيش حالة إنكار مزدوجة: أن يرفض الاعتراف بمصدر الإرهاب الذي يقتله. وأن يستمر في حربه ضد الظاهرة الوحيدة التي نجحت في مواجهة هذا الإرهاب بالذات. كيف ذلك؟ فلنتصور المشهدية السياسية للغرب لحظة مذبحة نيس الفرنسية. فهي تحمل كل الأدلة والقرائن. ثلاثة عناصر كافية لرسمها: الشاحنة القاتلة تحصد أرواح الناس. جون كيري في موسكو يفاوض بوتين على إعطائه رأس سوريا مقابل قبول واشنطن بتقديم رأس "القاعدة – النصرة". فيما الإدارة الأميركية تدأب على إعداد لائحة إسمية جديدة من الذين تضطهدهم باسم محاربة حزب الله. كيف تقرأ هذه اللوحة السوريالية؟ ثمة تفسير واحد لا غير لها: أن هذا الغرب بالذات، وفيما مواطنوه يسقطون ضحايا الإرهاب، لا يزال يحمي رأس الإرهاب وعاموده الفقري. ولا يزال يقاتل الرأس الوحيد الذي نجح في مواجهة الإرهاب واستئصاله ونشر ثقافة سياسية وحتى دينية مضادة له. الغرب، يبكي على ضحاياه، فيما يحمي سفاحه، ويضطهد الترياق الوحيد لمكافحة الجلاد. الغرب نفسه يحتمل قتل ناسه وكل الناس، من أجل أن يظل ممسكاً بورقة إرهابية سياسية، فيما يجهد للقضاء على ورقة أخرى، تتقاطع مع ناسه في مواجهة الإرهاب، وتتناقض مع قيادته في اصطفافات السياسة.
هل هو جهل مطبق؟ طبعاً لا. فالغرب الذي ينفق مليارات دولاراته على الدراسات والأبحاث ومجموعات التفكير والتحليل والتنظير والتقرير، يدرك حقيقة الوضع تماماً. لكنه في إدراكه هذا بالذات، عزم وصمم على تبني هذه الاستراتيجية الجهنمية: احتمال الإرهاب حتى المساكنة الشيطانية معه، من أجل حماية مصالحه النفطية. وقتال حزب الله، ولو كان عدو الإرهاب، من أجل حماية عقدته الصهيونية والاسرائيلية. منذ عقود طويلة، هي استراتيجية الغرب الأساسية. أن يسكت عن الإرهاب كي لا تسقط أنظمة دولاراته. وأن يضرب مقاومة الإرهاب، كي يحمي اسرائيل. معادلة ظل قادة الغرب واهمين بأنهم قادرون على التعايش مع أثمانها، على قاعدة أن عائدها أكبر من كلفتها. اليوم تبدّلت الموازين. تبدو الكلفة وكأنها صارت أكبر. فهل يتخلى عن ثنائيته القاتلة للشرق والعالم ولأبنائه، ثنائية مصلحتيه الاستعماريتين، في اسرائيل والنفط؟! ماذا وإلا، يمكن الجزم بأن إرهابي نيس ليس هو من قتل، ولا هو من قُتل.