«يحلّ عنّا سعد الحريري... جرّبناه وما طلع منّو شي... فشل بالسعودية وراجع يكمّل فشلو بلبنان». الكلام لسيدة بيروتية على بوابة أحد مراكز الاقتراع في منطقة المصيطبة. تبتسم المُسنّة بهدوء. ترفع بيدها لائحة منافِسة لـ«البيارتة». يتجهّم وجهها كلما سُئلت عن سبب عدم انتخاب اللائحة المدعومة من رئيس تيار المستقبل «زيّ ما هيّي». فصوت هدير الطائرة التي أبعدت أولادها الثلاثة مهاجرين مكرهين عن مدينتهم ما زال يُطارد أذنيها. يتجدّد سخطها كُلّما ذكر اسم «الشيخ». تتسارع وتيرة كلامها أمام المندوبين الموزعين. بدَت صلبة وهي تؤكّد أنها فضّلت المرشّحين الآخرين على «الزعيم البيروتي اللي ما تركلنا حتى شطّ نتمشى عليه… بَطّل عنّا مساحة نتنفّس فيها». لم تكُن هذه النقمة الظاهرة سوى عيّنة عن مزاج أهل بيروت الذين تُركوا في زاوية الانتظار سنوات، حتى جاءتهم اللحظة المواتية للردّ على تجاهُلهم، إما بالتصويت لمصلحة لوائح منافسة أو البقاء في المنازل كما فعلت الغالبية منهم. صحيح أن نسبة الاقتراع المتدنية في مدينة بيروت لم تكُن مفاجئة، إذ إنها لم تختلف عن نسبة المشاركة في الانتخابات البلدية عام 2010، لكن ثمّة ما كان فاضحاً هذه المرة لجهة «دب الصوت» على تيار المستقبل في عرينه. لا شكّ أن من لم ينفك يردّد منذ أسابيع شعار «حتى تبقى بيروت للبيارتة» يعرف أنه عنوان مناسب لشدّ العصب، غير أن الواقع الذي يعيشه الناس مختلف بعض الشيء.
كشف الاستحقاق البلدي والاختياري عن مدى الضعف الذي لحِق بماكينة المستقبل
الاستحقاق البلدي والاختياري أمس كشف عن مدى الضعف الذي لحِق بماكينته الانتخابية. كان بمقدور المتجوّل في شوارع بيروت أن يلحظ أخطاءها. البداية مع مندوبي التيار الذين انتشروا بكثافة بالقرب من مراكز الاقتراع، وهم يسعون إلى إقناع المواطنين بالتصويت للائحة «البيارتة»، عبر نشر اللوائح وتوزيعها. ثمّة من قرّر اعتماد اللون الأحمر لـ«تيشرتاتهم» بدلاً من اللون الأزرق. هذه ثغرة كان يمكن أن يدفع ثمنها تيار المستقبل في صناديق الاقتراع بعدما تسبّبت بخلق بلبلة عند بعض الناخبين الذين ظنوا بداية أن هؤلاء يوزعون عليهم لوائح ملغومة.
عند كل المفترقات تسونامي أحمر على «مدّ عينك والنظر». كثرة لم تحجب نقاط ضعف ظهرت في اعتراض عدد من المندوبين الإداريين على تأخر وصول التصاريح والأموال إليهم، فاضطروا إلى البقاء واقفين أمام أبواب المراكز حتى قرابة الساعة التاسعة والنصف أمام مدرسة «سيتي انترناشيونال سكول». وفي مقابل هذا المدّ، كثرت الألوان والقمصان. الأصفر لـ«المشاريع». الأبيض «لبيروت مدينتي». والأزرق لـ«الجمعية اللبنانية من أجل ديموقراطية الانتخابات». مندوبوها رصدوا الكثير من المخالفات؛ منها: نشاط ماكينة المستقبل داخل مراكز الاقتراع، وعدم لصق المغلفات قبل إدخالها إلى الصناديق، والسماح لإحدى الناخبات بالاقتراع رغم الخطأ برقم سجلّها. عند المداخل، يعبر شبان وشابات يحملون في أيديهم صناديق أكل وزجاجات المياه، وزعت على الناخبين. تدرجت بين ما هو متواضع وما هو فاخر كما العلبة الكرتونية البيضاء للائحة البيارتة.
صباحاً، بدت بيروت غير معنية بمعركة الانتخابات البلدية والاختيارية. ظهرت الحركة خجولة، لم تخترقها سوى الموسيقى التي تصدح في الشوارع من سيارات تعلوها مكبرات الصوت. لم يلبّ «البيارتة» الدعوة إلى الاقتراع باكراً بعد «الأرغيلة» كما عهدهم التيار أيام الرئيس رفيق الحريري. خيار البقاء في المنازل كان الأكثر رواجاً، ما عكس بشكل واضح عدم قدرة الأحزاب وتحديداً تيار المستقبل على الحشد. أما التيار الذي نصب خيمه عند مفارق الأحياء، فقد وجد كوادره أنفسهم في بعض الأحيان مضطرين إلى "شدّ" الناس: «إنتو بيارتة... انتخبوا لايحتهم... كونوا أوفيا والتزموا»! حتى إنهم في بعض الأحيان مارسوا الضغط على مندوبي اللوائح الأخرى. في الشارع، كان عدد العناصر الأمنية والمخبرين أكثر من عدد المندوبين والمتطوعين على أرض المعركة الانتخابية. وهؤلاء كانوا أكثر عدداً من الناخبين طوال اليوم. حتى إن رجال الأمن في مدرسة البطركية اضطروا إلى الطلب من المندوبين الخروج منها لكثرتهم. داخل مراكز الاقتراع غابت الطوابير. يجلس 7 أو 8 مندوبين مقابل مقترع واحد. وفي بعض المراكز، اقتصرت حركة الدخول والخروج على العاملين فيها. أما الإداريون فملأوا الوقت الطويل إما بقراءة الجرائد أو النظر إلى ساعاتهم والتجول من غرفة إلى أخرى.
انتهى يوم بيروت أمس على مشهد جديد أثبت تراجعاً كبيراً لم يتوقّعه تيار المستقبل في تصويت الناخب البيروتي لمصلحته، وإن كانت النتائج محسومة سلفاً للائحة «البيارتة» التي يدعمها. لم تنفع الزيارات الميدانية التي تولاها الرئيس سعد الحريري شخصياً، وعدد من قادة تياره. ورغم المحاولات الحثيثة لرفع نسبة الاقتراع في بيروت، بدا الخطاب السياسي غير موائم لمصالح الناس وتطلعاتها.