انطوان سعدما أثاره البطريرك الماروني مار نصر الله بطرس صفير في رسالة الميلاد أمس خير إشارة إلى الأزمة العميقة التي تهزّ البلاد منذ انسحاب الجيش السوري من لبنان قبل ثلاثة أعوام، والتي تتفاقم يوماً بعد يوم لدى مقاربة كل استحقاق إداري أو سياسي أو وطني. وبعد أزمة انتخاب أعضاء المجلس الدستوري في مجلس النواب التي يحاول رئيس الجمهورية العماد ميشال سليمان استيعاب ذيولها وتفادي تحولها إلى مجال جديد للمواجهة المفتوحة بين تحالفَي الأكثرية والأقلية النيابيتين، يبدو كل ملف مفخخاً بقنابل موقتة يمكن أن تنفجر بكل من يحاول إيجاد حلول ولو ظرفية لها لإمرار الوقت، بانتظار نتائج الانتخابات النيابية المرتقبة في الربيع المقبل. علماً بأن ليس بين المعنيين بملف الانتخابات، أكان من الأطراف السياسية أم من المراقبين ومراكز الاستطلاع، من يتوقع فوزاً مبيناً لأيٍّ من الطرفين يمكِّنه من التفرد باستعمال أحصنته لشد عربة البلاد وحيداً.
أمام هذه التوقعات باستمرار المعادلات القائمة حالياً بعد الانتخابات، يبدو التأجيل ضرباً من الهروب إلى الأمام الذي لن يؤدي إلا إلى تفاقم المشاكل، وإلى انحلال مفهوم الدولة وتفتته، في ظل غياب المجتمع المدني والأهلي في لبنان عن أداء دور المحاسب، وفي ظل غياب الأدوات التي تمكّن رئيس الجمهورية من إنقاذ البلاد مما تتخبط فيه.
آخر مجالات هذه المواجهات التي تنتهي عادة بالهروب إلى الأمام ما يجري في مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي. في مطلع تشرين الأول الماضي، وجّه وزير الداخلية، زياد بارود كتاباً إلى هذا المجلس بواسطة المدير العام لهذه القوى اللواء أشرف ريفي طالباً فيه أمرين: الأول بتّ الأوضاع القانونية للشُّعَب والقطعات التي أنشأها المدير العام في الفترة السابقة من دون مراعاة الأصول القانونية المرعية الإجراء. والأمر الثاني إجراء المناقلات العامة للضباط في مختلف الأجهزة التابعة لقوى الأمن الداخلي، وهي متوقفة منذ ما يزيد على ثلاث سنوات، وقد استعيض عنها بقرارات الفصل التي لم تراع فيها إلا مصالح القوى السياسية. وأهم ما ورد في كتاب وزير الداخلية هو تحديده مهلة لتحقيق هذين الأمرين أقصاها الخامس عشر من كانون الأول الجاري. غير أن مصادر مطلعة أكدت لـ«الأخبار» أن اللواء ريفي لم يعرض الكتاب على مجلس القيادة إلا في اجتماعه المنعقد بتاريخ الخامس عشر من كانون الأول، أي في الموعد المحدد لتبلّغ وزير الداخلية قرار المجلس بخصوصهما.
بعد تلاوة كتاب الوزير المختص، قرر أعضاء مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي درس الموضوع، غير أن المصادر المطلعة تعتقد أن الاتجاه السائد في المجلس حتى الآن، يوحي أن لا نية لدى معظم أعضائه لمواجهة المطلوب منهم مباشرة. وقد تستغرق المناقشات، ما لم يُتَّفَق على بتّ أوضاع الشعب والقطعات المستحدثة والمناقلات خارج مجلس القيادة، من الوقت ما يكفي لاقتراب موعد إجراء الانتخابات النيابية والتذرع به لتأجيل الملف برمته إلى ما بعدها. وهذا تماماً ما يحصل في جلسات الحوار بين أقطاب الأكثرية والأقلية النيابيتين في القصر الجمهوري في مسألة الاستراتيجية الدفاعية.
وبدلاً من أن ينطلق أعضاء مجلس قيادة قوى الأمن الداخلي من الواقع الذي يمزق البلاد، ويتحملوا مسؤولياتهم، ويبعدوا كأس الانقسام عن المؤسسات التي يتولون إداراتها، يبدو أن معظمهم يتردد أكثر من اللازم في الخيار بين الولاء للسياسيين والولاء للوطن والمواطنين ولهذه المؤسسات التي ورثوها عن ضباط كبار عرفوا كيف يقودونها حتى في عز سنوات الحرب اللبنانية. ولا يزال عدد كبير من الضباط يذكرون بالخير اللواء أحمد الحاج الذي كانت أيام رئاسته هي الأصعب في ظل انقسام البلاد سياسياً وعسكرياً وجغرافياً، وفي ظل وجود جيوش وتنظيمات غريبة نافذة على الأراضي اللبنانية، ومع ذلك تمكّن من شد عصب قوى الأمن الداخلي، ومن توحيد ضباطها وأفرادها على أمل ورجاء أن تنتهي الحرب يوماً، وتعود الأمور إلى نصابها، ويسود منطق الدولة ومفهومها، لا منطق التحاصص والاستزلام على حساب حقوق المواطنين.