القمع الذي مارسته الأجهزة الأمنية أمس بحق المتظاهرين في ساحة الشهداء، لم يكن وليد لحظته، بل هو نتيجة قرار سياسي ــ أمني، جرى التمهيد له خلال الأيام الماضية. النائب وليد جنبلاط، على عادته، كان أكثر أهل النظام صراحة. على طريقته، حذّر من تحوّل الحراك إلى مشكلة أمنية في البلاد. أما تيار المستقبل، فتولى عبر قوى الأمن الداخلي، تنفيذ القمع، وتغطيته من خلال وزير الداخلية نهاد المشنوق مدعوماً من تياره السياسي.
أما المشاركون في طاولة الحوار، فصمتوا عمّا جرى على بعد أمتار منهم. بعض أنصار راعي الحوار، الرئيس نبيه بري، «كسروا هذا الصمت»، ولاقوا القوى الأمنية، وشاركوا في الاعتداء على المتظاهرين، لرسم خط أحمر تحت عنوان: «يُمنع التعرض للرئيس (بري)».
بشائر القرار السياسي ــ الأمني بدأت بالظهور يوم الأحد الماضي، حين أعلنت المديرية العامة لقوى الأمن الداخلي هذا القرار، من خلال القول: سنحمي التظاهرات، ولكن... وبعد الـ»ولكن» تكمن الرسالة التي لم يلتفت إليها أحد، لأن الجمهور اعتاد إهمال بيانات الأمن الداخلي، أو عدم أخذ مضمونها على محمل الجد. كان بيان المديرية، الذي يحظى بغطاء من وزير الداخلية نهاد المشنوق ومن خلفه تيار المستقبل، يعلن القرار الذي نُفِّذ أمس: «يُمنع قطع الطرقات، يُمنع التعدي على الأملاك العامة، ويُمنع المسّ بقوى الأمن الداخلي». تحت هذا العنوان، نفّذت القوى الأمنية القمع الأمس. هذا القمع منح التحركات الاحتجاجية زخماً إعلامياً كبيراً، من دون أن يُترجَم حشداً شعبياً في اعتصام ساعة رياض الصلح. الحزب الشيوعي زوّد المعتصمين بمدد عدديّ، من خلال انتقال من لبّوا دعوته لإحياء ذكرى انطلاقة جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية من الصنائع إلى وسط المدينة. ويبدو أن «الغزوة» التي نفذها بعض أنصار الرئيس بري في ساحة الشهداء، «احتجاجاً على شتائم كيلت للرئيس»، فعلت فعلها في تخويف عدد من الذين شاركوا سابقاً في الاحتجاجات، فلم يتجاوبوا أمس مع دعوات الاعتصام ليلاً في «رياض الصلح».

بيان قوى الأمن الداخلي الأحد أعلن ما ستقوم به «مكافحة الشغب» أمس

قوى الأمن الداخلي، ومن خلفها وزير الداخلية، تبدو كمن استعاد ثقته بنفسه بعد أيام من الخوف. يردد المشنوق وضباط المديرية كلاماً عن «منع التعرض لهيبة المؤسسة التي تركها الجيش في مواجهة المتظاهرين»، وعن «نفسية الضباط والعناصر التي سُوّيت بالأرض»، نتيجة إعلان معاقبة ضباط وأفراد شاركوا في قمع المحتجين سابقاً. كذلك توقف الأمنيون طويلاً عند «لجوء أفراد لا يتجاوز عددهم أصابع اليد الواحدة، إلى قطع الطرق قبل يومين في وسط بيروت، محتجزين آلاف المواطنين في سياراتهم، ساعة الذروة، وهو ما لن نقبل بتكراره». رجال مكافحة الشغب الذين كانوا موجودين قرب مبنى «النهار» في وسط البلد أمس كانوا قد تلقوا تعليمات واضحة: «اسحَبوا كل من يحاول تجاوز حاجز، وكل من يتعرّض لكم بالضرب أو الشتم أو الرشق». و«اسحبوا» هي الكلمة التي تعني «أوقِفوا». والتوقيف في قاموس مكافحة الشغب لا يتضمن أي «ضوابط»: الضرب والركل والسحب والشتائم لا تُعدّ تجاوزات تُذكَر. وبناءً على ذلك، خرج المشنوق ليل أمس ليمنح القوى الأمنية غطاءه. من على شاشة تيار «المستقبل»، قال إن «بعض المتظاهرين توجهوا إلى قوى الأمن بألفاظ نابية، وبالتالي هذا الأمر استوجب تنفيذ القانون عبر توقيفهم وقرر القضاء الإفراج عنهم»، مضيفاً: «نحن مهمتنا الحفاظ على المتظاهرين وحماية حقهم بالتعبير، أيضاً العسكريات الإناث تعرضن لكلام مهين، وإذا أراد المتظاهرون حفظ حقهم يجب أن يعلموا أن عناصر قوى الأمن بشر ولديهم كرامة ومسؤولية، ولا يمكن أن يتعرضوا لهم دون ردعهم».
وأضاف المشنوق: «هم يبحثون عن أحد لكي يضربهم، أي بعض المتظاهرين وهم يريدون دم في الشارع ولم يتم استعمال مفرط بالقوة وربما هناك خطأ بسيط من عسكري، وهناك مبالغة والصليب الأحمر موجود ويمكنه الحديث عمّا جرى وعن الإصابات». وشدد على أن «هناك إصراراً لدى البعض وليس الجميع من المتظاهرين على استفزاز القوى الأمنية من خلال البصق في وجوههم والتعرض لهم لفظياً وبالضرب».
أما حركة أمل، فمارست كعادتها، فعل التنصل من أي شخص يمارس الشغب باسمها. ولاقاها في ذلك تيار المستقبل ــ في إعلامه ــ الذي وصف «الغاضبين نصرةً لبري» بأنهم من أبناء الأحياء المجاورة لمنطقة الاعتصامات، من دون أن يمنحهم، على غير عادته، أي هوية سياسية. لكن بيان الحركة لاقى «الغاضبين» في منتصف الطريق، إذ إنه طلب التزام الهدوء، مهدداً في الوقت عينه باللجوء إلى القضاء لمحاسبة «من وجه كلاماً نابياً بحق الأخ رئيس الحركة». واعتبر البيان أن «المتهم الرئيسي هو الذي يعتدي على كرامات الناس عبر الشاشات، ما يحرك مشاعر الناس».
خلاصة ما جرى أمس أن القوى الأمنية، ومن خلفها السلطة السياسية، «ابتلعت» صدمة التحركات الأولى، ولم تعد ترى فيها ثقلاً شعبياً مخيفاً. كان المشنوق أمس واضحاً في البوح بما في عقله، إذ قال ليلاً: «نحن نعرف حجم الحراك وهو محدود جداً». وبعد امتصاص الصدمة، بدأ وقت الهجوم، أو على الأقل، مغادرة موقع المتلقّي. في نظر السلطة، لا حل إلا بالقمع، في موازاة قرب وضع «خطة معالجة النفايات» على سكة التنفيذ.