غزة | ينفضُ قبّعته من شعره الدّبقِ بالعَرقِ وملح الموج، يلوّحُ من بعيد بذراعيه الموشومتَين كأنه يختزلُ الريح والمسافة الباقية من الماء، وهو يقاسِمُ أصدقاءه الجدد الخبز والشوق إلى ما يجهلونه هناك، يلفظون أسماء بعضهم بلغات متكسّرة ويضحكون، قبل أن يصيبهم ذلك الفرح المفاجئ حتى البكاء، عندما يصير شاطئ الميناء أمامهم، من مراكب وأطفال ينثرون ورد القرنفل الملوّن على وجه البحر. هناك ابتدأت قصّة ذلك الإيطالي الذي كان يغنّي بصوته الأجشّ «أناديكم... وأشدّ على أياديكم»، فيمطّ الكلمات بطريقته الخاصة والمضحكة قليلاً، ولا يلبثُ أن يهدأ صخبه، يكفّ عن التلويح والرقص، لينحني بغتةً ويقبّل تراب الأرض التى أحبها، يغطي عينيه بساعده كطفل ويبكي.فيتوريو كان يشبه زوربا اليونانيّ كثيراً، بملابسه الرثّة التي بهتت في الشمس، بقبعته القديمة المتسخة، بحذائه المهترئ الضخم وسيجاره الكوبي. كان يشبهه حين يبكي وحين يفردُ يديه في الهواء ويرفع قدميه عن الأرض ليبدأ الرقص في أيّ مكان، في الشارع أو المقهى، أو حتى على الحدود أمام آليات الجنود وخوذهم العسكريّة، فيوشكُ على الغناء لهم أحياناً ببوقه اليدويّ الذي يستخدمه ليقول لهم بالإنكليزية: «نحن مدنيون وغير مسلحين، نريد فقط أن نساعد المزارعين ليجرّوا جثة شهيدهم الذي قتلتموه عند السياج، عندما كان يحصدُ القمح ويجني حبات الفراولة الناضجة في أرضه»، فيردون عليه هو وزملائه بالرصاص.
لكنه حين يخرجُ فجراً مع صيادي البحر بكاميرته وبوقه، ليرافقهم في رحلة موت ٍأخرى باتجاه أمتار قليلة محظورة على شِباكهم، كان يقفُ كبحارٍ قديم آتٍ من بلاده البعيدة، يتفادى رشّاشات الطرّاد الإسرائيلي السريع، وهو يشقّ البحر ليغرق مركبهم، فيعودُ ساخراً منهم ومن ملابسه المبللة، متحدثاً عنهم بانفعال ولهجةٍ غاضبة؛ فقد كان الصيادون يسرقون السمك من بحرهم!
غير أنه لا يكفّ عن الرقص والدبكة، وحده أو مع آخرين، مع الصبيان في المخيمات، مع عامل نظافة على الرصيف، مع أصدقائه الغزيين في التظاهرات والاعتصامات ومباريات كرة القدم. وقد تعجبه عينا فتاة جميلة تقطعُ الطريق، فيحيّيها مبتسماً: «لكِ عينان جميلتان!» ويمشي. كان يرقصُ للأرضِ ويحبّها.
الأطفال الخائفون في الحرب كانوا يحبّونه أيضاً، يحكي لهم حكايات ما قبل النوم ويسألهم: هل أنتم خائفون؟ وحين يومئون برؤوسهم، يقول لهم: «حسناً، أنا أيضاً خائف مثلكم»، فيهربُ الخوف منهم.
لكنّ غزة لم تُهدِه موتاً لائقاً وجميلاً، أهدته حُبّاً وكفناً من ألوان عَلَمها الأربعة، وأعادته إلى البحر.
6 تعليق
التعليقات
-
كلام جميل جداتحياتي لك اسماء انها المرة الأولى التي أقرأ فيها مقالا لك أعجبتني العبارات وطريقتك في وصف فيتوريو وفي استخدام الاصطلاحات اللغوية التي تدفعنا لمعرفة فيتوريو من دون رؤيته وفي هذا الاطار لقد قمنا في قناة فلسطين اليوم وأنا معدة في البرنامج قمنا بحلقة خاصة حول هذا الناشط البطل وقد عرضت بالفعل في 19/04/2011 علّنا نفى هذا البطل الشهيد جزءا من حقه علينا. فيتوريو فلسطيني بإنسانيته.
-
من زمن الماضي كنا ولا نزل بذاكرتنا نحياكما تعودت عليكي دائما .. رائعة بكلماتك أسماء .. فلتحيا روحك نقية . كل التحية
-
كلمات رائعة جدا عزيزتي أسماء،كلمات رائعة جدا عزيزتي أسماء، ومهما تعاظمت الكلمات تكون قليلة جدا بحق هذا الرائع الذي نال ما لا يستحق من أبناء الشعب الذي ضحى بكل شيء من أجل التضامن معه نتفخر بك يا فيتوريو، ونفتخر بأنك شهيد التضامن مع الشعب الفلسطيني.. كل الشكر لك يا أسماء على هذا الجهد الرائع وفاء لفيوتوريو بالتوفيق كل الوج
-
مذهل ما كتبت سا أسماء.. نشرتهمذهل ما كتبت سا أسماء.. نشرته علص صفحتي. هل من أحد يساعدني بالترجمة للإنجليزية؟
-
ابكيتني يا اسماء . وردة بعدابكيتني يا اسماء . وردة بعد وردة يحصدهم المحتل. لا تقولوا لي قتل باياد سلفية فلسطينية، ما اراه مستفيد واحد هو اسرائيل، من راشيل كوري الى جوليانو ابن آرنا، الى فيتوريو الذي يقول للفتيات ان لديهن عيونا جميلة. يقول لهن ذلك في بلاد متجهمة من الخوف والحصار والالم. رجال يقهرون النساء خوفا ..اينما كان القمع كان التخلف. اينما كان الاحتلال كان الخوف. العزاء في ورود تتفتح وتروي بعد ان تكون قد رات . مثلك يا ايتها الجميلة اسماء. شكرا لك على هذه اللحظة المليئة بالامتنان باسمنا جميعا.
-
ردالجميع الجميع له ذكرياته مع ابن بلدنا فيكتور .. احترامي اسمااء