يغافل فادي أبو عجاج قاتليه ويضحك لبريق القذيفة وهي تدهم جسده في المخيم، وبالغالب هو أصلح من هندامه ليعانق الموت بأناقة. ثمة من يسألني: هل يبتسم الموتى؟ أقول: نعم، الشهداء منهم يبتسمون، وحين يكون الشهيد فلسطينياً ستتسع ابتسامته، وقد عرف لمعنى حياته سبيلاً، وحين يكون الشهيد الفلسطيني هو فادي، ستصير ابتسامته ضحكاً، فإن آلمه الموت غافله بالفرح، وإن لمحته الحياة قدّرت أنه يستحقها، وإن خذله الاثنان بدد انتصارهما عليه بضحكة «وليكن... ها أنا أصير ما أريد». ضحكة فادي وعبارته الشهيرة «وليكن...»، كانتا علامتين مميزتين لابن مخيم اليرموك، يرميهما بوجه كل درب مغلق ليقهر بهما حصار مخيم اليرموك، يحمل كاميرته بيد، وبيده الأخرى يساعد في انتشال جثة شهيد أو إسعاف جريح.
تغيرت أحوال المخيم فتغير حال فادي، فتلك اليدين الموزعتين الآن بين مهمتين في مواجهة الحصار، كانتا موزعتين قبل القصف بين يد تحمل كاميرا ترصد أفراح المخيم ويد أخرى ترقص. وحين يشتد الفرح كان فادي يترك كاميرته لأخيه حازم، ويرقص بيدين.
في كل مرة كان فادي الفلسطيني يشبه الحياة، يقبض الشهيد الشاب على سر وجوده الإنساني البسيط، بريئاً من البعد الأسطوري المفترض للفلسطيني كما تشغف به الكاميرات.

فادي كان يشبه الحياة حتى في موته. لم يؤدلج الفتى الفلسطيني فلسطينيته، لم يرهقها بشعارات وخطابات. هو آمن فقط بأن لكل مقام من الحياة ومن الموت مقالاً، وأن الشهادة التي تعنيه، هي شكل ثانٍ من الحياة، نذهب إليها طلباً لمتعة إضافية من الدنيا، لا يأساً منها. فادي كان على هذا النحو يمثل صورة الفلسطيني الجديد، الذي يعيش لمخيمه وناسه كما لو أنه سيستوطنه أبداً، ويعمل لفلسطين ولعودته كما لو أنه سيعود إليها غداً.
هو خلع ملابس الفدائي ربما، وربما لم يلبسها بالأصل، لكنه لم يكن ليشبه أولئك الذين خلعوها ليدخلوا أوسلو كما ولدتهم أمهاتهم، عراة. ولهذا السبب بالغالب، لم يجد وجه فادي مكاناً له في شاشات الفضائيات، وسط أخبار المفاوضات وموائد مديح السلام العالي، ولم يكن بطبيعة الحال، ممكناً أن نلتقط ظلال هذا الفلسطيني الجديد في أخبار الصفحة الأولى إلى جانب صورةٍ لفلسطيني تغرق بالدم والقتلى. فادي كان مشغولاً إلى جانب رفاقه بتفاصيل العادي البسيط في يومهم، إلى أن ناداه معنى لموته يوازي معنى موته في الطريق إلى فلسطين، فلبى النداء.
لم يكن عادياً بطبيعة أن يكون الفلسطيني مشروع حياة، كما كان فادي، كانوا يريدونه على هامشها أو مقيماً فيها بحكم ذاتي أو أسيراً في خطاباتهم وقصائدهم وشريط الأخبار العاجلة الأحمر، لكن هذا الفلسطيني الجديد كان يصر على الحياة، ما دام قادراً على الابتسام والضحك، وكان يريد أن يعلمهم كيف يصير موته، حين يختاره، شكلاً بليغاً من الحياة.