لم يسبق لإسرائيل، على مرّ تاريخها، أن وجدت نفسها في وضع صعب كالذي تعيشه هذه الأيام، إذ للفعل بُعدان، أحدهما «محلي» يتمثّل في قدر غير معهود من التفكّك الداخلي، والذي دخل مرحلة متقدّمة تشي بظهور علائم «نقص المناعة»، بما يجعل الجسد عرضة لأمراض ما كان لها أن تظهر في حال تمتّع هذا الأخير بمناعته، ولو المكتسبة؛ وثانيهما خارجي، يتمثّل في عزلة دولية بلغت حدوداً لم تبلغها، حتى عندما شنّت تل أبيب عدوانها الشهير يوم 5 حزيران 1967، واحتلّت أراضي عربية بلغت مساحتها ضعفَي تلك التي سيطرت عليها عام 1948، أو عندما حاصرت بيروت صيف 1982.وتقول تقارير الأمن الإسرائيلي الصادرة عشية بدء الحرب على رفح إن «الجيش يخوض حرب استنزاف» في قطاع غزة، علماً أن هذا النوع من الحروب هو أشبه بـ«الفخ» لجيش مصمّم أصلاً على مقاس حروب خاطفة وسريعة، يستطيع عبرها حسم المعركة في غضون مدة قصيرة. والفعل الذي من شأنه أن يخفّف من الآثار التي تخلّفها الحروب عادة على البنى الاقتصادية والاجتماعية، لا بديل منه للحفاظ على تركيبة قامت أساساً على «نواة» عسكرية بنت من حولها مجتمعاً واقتصاداً. وبمرور الوقت، راح المشهد السياسي الداخلي المرتسم على وقع «الطوفان»، يشي ببدء تفكّك «الجبهة الداخلية»، ليس بين معارضة وسلطة فقط، بل في صلب التيارات التي يحكم رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، عبرها. ولربما كانت الذروة في هذا المشهد، هي الاتهامات التي وُجّهت إلى نتنياهو بتغليب «الشخصي» على «الوطني»، والذي يمثّل «مقتلاً» للكيان وللمشروع في آن واحد، أو يصيب البنيان بـ«حروق» من الدرجة الرابعة أو الخامسة، يستدعي علاجها أمداً ليس بقصير، إن توافرت أصلاً سبل العلاج التي من أهمها توافر «استجابة» الجسد لمقتضياته.
على الضفة الخارجية، راحت الحمولات تتكاثف بدرجة كبيرة؛ وبحلول شهر نيسان، كانت التحرّكات الطلابية في الجامعات الأميركية تزيح صورة إسرائيل التي تراكمت في ذات جمعية غربية بفعل مؤثّرات أُنفقت لأجلها المليارات، وبُنيت للهدف عينه منابر راحت تجترح أنواعاً من الخطاب الاختراقي، حتى لنسيج النخب التي يُفترض بها أن تكون عصيّة على الاختراق. وتبعاً لذلك، تراجع التأثير الصهيوني الفاعل في النسيج الغربي، حتى إن تأثير «إيباك»، مجموعة الضغط الإسرائيلية الأهم داخل الولايات المتحدة، راح ينخفض تدريجياً، الأمر الذي يمكن لمسه بوضوح عبر فرض واشنطن عقوبات على وحدة «نيتساح يهودا» الدينية المتطرّفة في جيش الاحتلال، إذ من المؤكد أنّ العقوبات ما كانت لتُفرض لو أن «إيباك» في حالتها الصحية المعهودة. وبحلول أيار، كانت إسرائيل على مواعيد مع أربع هزات ارتدادية بدأت الأولى منها بتصويت 143 عضواً في الجمعية العامة للأمم المتحدة لمصلحة قبول فلسطين كدولة كاملة العضوية في المنظمة الدولية، وتلاها اعتراف الثالوث الأوروبي، إسبانيا والنرويج و إيرلندا، بفلسطين دولة مستقلة، وهو الفعل الذي سيفتح بالتأكيد «شهية» أوروبيين آخرين ممّن كانت مواقفهم بحاجة إلى «تحفيز».
التحرّكات الطلابية الأميركية أزاحت صورة إسرائيل التي تراكمت في ذات جمعية غربية بفعل مؤثّرات أُنفقت لأجلها المليارات

وما بين الهزّتين، جاء الطلب الذي تقدم به مدعي عام «المحكمة الجنائية الدولية»، كريم خان، إلى قضاة المحكمة لإصدار مذكرات توقيف بحق كل من نتنياهو ووزير دفاعه، يوآف غالانت، جنباً إلى جنب مع ثلاثة من قادة الصف الأول في حركة «حماس». صحيح أن الفعل كان انتصاراً لـ«نصف العدالة»، لكنه جاء على درجة عالية من الأهمية، حتى بالشكل الذي صدر به؛ إذ لطالما استمدّت المقاومة شرعيتها من شرعية قضيتها فقط، في حين تستمد إسرائيل «مشروعيتها» من المؤسسات والمنظمات التي بناها الغرب لحماية مشاريعه التي تقع هي في الذروة منها. ثم كان قرار «محكمة العدل الدولية»، الجمعة الماضي، والذي طالب الاحتلال بوقف الهجوم على رفح. والجدير ذكره، في هذا السياق، هو أن أهمية الهزّتين الأخيرتين تأتي من أن مصدرهما هو «الأدوات» التي اصطنعها الغرب لحماية مصالحه وهيمنته، وفقاً لما دلّ عليه التصريح الذي أدلى به خان في أعقاب تقديمه لطلبه آنف الذكر، والذي قال فيه إنه جرى إبلاغه عشية تسلّمه منصبه الحالي بأن «المحكمة صُمّمت أصلاً من أجل روسيا وأفريقيا».
قد تصلح السردية السابقة لأن تكون جردة حساب مؤقتة لما أحدثه «الطوفان»، لكن مع التأكيد أن «الجردة» لم يحن أوان وضع سطر تحتها، إيذاناً بانتهاء العملية. بل لعل من المبكر جداً القيام بفعل من ذلك النوع، إذ لطالما كان هناك الكثير ممّا يتوجّب انتظاره قبل أن تحين لحظة وضع ذلك السطر. صحيح أن «الطوفان» كان قد أجهز على ثلاثين عاماً أو يزيد من التفاوض، فأحالها مساراً عبثياً لا جدوى يُرتجى منه، لكن المنتظر، وفي الأمر ما يدعو إليه، أن «يكنس» لاحقاً كل هذا السطح الذي كان مؤمناً بالمسار المذكور، والذي لا يشبه فلسطين بأي شيء، تماماً كما هو منتظر أن تنكسر أمواج «التطبيع» التي ما انفكت تتكاثر، في مؤشر إلى «موات» السطح الذي بات يلزمه «الكشط»، تماماً كما يحصل للمحار الذي لا يبان جوهره إلا هكذا، لتبقى الحقيقة الأهم التي تستدعي فعلاً من النوع المشار إليه، والتي بدت صارخة في سياق «الطوفان»، هي أن الأنظمة العربية تنحو في اتجاه «الاعتدال» أكثر، كلّما سارت إسرائيل نحو المزيد من التطرّف والعنف.