غزة | فجّر مخيم جباليا في شمال قطاع غزة مفاجأته - والتي أعلن عنها لاحقاً الناطق باسم «كتائب القسام»، «أبو عبيدة» -، في الوقت الذي قدّر فيه جيش العدو أن الزخم الميداني لعمليات المقاومة تراجع إلى الحد الذي يسمح بأن تصبح فيه الأماكن التي توغّل فيها مساحة للاستعراض. استعراضٌ دشّنه وزير الحرب، يوآف غالانت، الذي زار إحدى مناطق جباليا، وظهر في صورة محاطاً بعدد كبير من الجنود، ليحتفي بالصورة الناطق باسم جيش الاحتلال باللغة العربية، أفيخاي أدرعي، ومن ثم يخرج المتحدّث الرئيسي باسم الجيش، دانيال هاغاري، منتشياً بتمكّن جيشه من استعادة جثامين سبعة من جنوده من المخيم، مؤكّداً أن العملية ستتوسّع وتستمر في تلك المنطقة. لكن في هذا الوقت بالذات، خرج «أبو عبيدة» في تصريح مفاجئ مساء السبت، أعلن فيه تمكّن المقاومة من تنفيذ عملية شديدة التعقيد، تمكّنت فيها من إيقاع مجموعتين من الجنود بين «قتيل وجريح وأسير»، ثم أتبع خطابه بمقطع فيديو ظهر فيه أحد المقاومين وهو يجرّ جثة لأحد الجنود في داخل نفق، قبل أن يُختتم المقطع بعبارة «للحكاية بقية». وأمام صدمة المشهد، أعلن جيش الاحتلال أنه لم يتمّ التبليغ عن أي حادثة أسر في معارك القطاع، غير أن الساعات اللاحقة لإعلان «كتائب القسام»، شهدت تصعيداً هو الأكبر، حيث أعلن العدو شنّ نحو 70 غارة بالطيران الحربي على المخيم خلال 24 ساعة، فضلاً عن نسف وتدمير مربّعات سكنية بأكملها.ما الذي جرى في جباليا؟ وفقاً للإعلام العسكري التابع لـ«كتائب القسام»، فقد تمكّن المقاومون من استدراج قوة من وحدة عسكرية خاصة إلى داخل أحد الأنفاق، حيث فجّروا عبوة ناسفة، ثم اشتبكوا مع القوة بالأسلحة الرشاشة، وأوقعوا أفرادها بين قتيل وجريح. وعلى إثر ذلك، واصل المقاومون كمونهم، وأوقعوا قوة الإسناد والنجدة التي حضرت لإجلاء القتلى، في شرك ناري كثيف. وإذ لم تفصح الكتائب عن أعداد ما في حوزتها من أسرى، ولا عن أعداد القتلى، فهي ربما تنتظر الوقت المناسب لتوجيه صفعتها الثانية، من خلال الإعلان عن الأسماء.
في الدلالات العسكرية للحدث الكبير، الذي توافق على سبيل المصادفة مع يوم السبت، مذكّراً بالضرورة بسبت السابع من أكتوبر، ومع ذكرى اندحار جيش العدو من لبنان في 25 أيار، تحضر جملة من النقاط:
- جاءت عملية «كتائب القسام» النوعية بعد أكثر من 230 يوماً على بدء الحرب، في وقت يزعم فيه جيش العدو أنه قضى على كل «الكتائب» في القطاع، ما خلا عدة جيوب في شماله وجنوبه، لتؤكد سلامة البناء الهيكلي لـ»القسام»، وأن الأخيرة قادرة على تنفيذ عملية أسر بكل ما فيها من تعقيد، لجهة اختطاف الجنود ثم تأمينهم، وتصوير العملية وبثّها بعد أكثر من سبع ساعات من التنفيذ. وتلك التفاصيل أخضعها إعلام العدو للتحليل، وخلص في آخر ما تسرّب من تحقيقات، إلى أن الـ 24 كتيبة التي تشكّل «كتائب القسام» لا تزال قادرة على العمل بكامل فعاليتها.
إدارة المقاومة للمعركة قائمة على فكرة الاستنزاف الطويل


- يُسجل هنا أيضاً أن «القسام» لجأت إلى تنفيذ عملية الأسر هذه، لتفريغ العمليات البرّية التي يشنها جيش العدو ويدفع فيها أثماناً كبيرة من القتلى والمصابين، من جدواها الفعلية؛ إذ إن مغامرات كتلك، لن تكون كفيلة بإنهاء ملف الأسرى وتحريرهم، وإنما بزيادة غلّة المقاومة منهم. وفي ذلك رسالة إلى عائلات الجنود، تساهم في مضاعفة حالة الاضطراب الداخلي، ودفع الشارع والمستويات الأمنية والسياسية التي تعارض رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، حتى داخل مجلس الحرب، إلى زيادة الضغوط للدفع في اتجاه إبرام الصفقة وإنهاء الحرب.
- بهذه العملية، تعلن «كتائب القسام» أنها دشّنت مرحلة جديدة من الضغوط؛ إذ لم تكن هناك عقبات ميدانية طوال أشهر الحرب تعوق تنفيذ عمليات أسر، لكنّ الحسابات هنا تتعلق بوفرة ما تمتلكه المقاومة من جنود أسرى، ومحاولة لتجنّب ردة الفعل الإسرائيلية العنيفة على هكذا تطور. وحينما كسر جيش الاحتلال كل الخطوط الحمر، وأوغل في التدمير وارتكاب المجازر، أضحى اللجوء إلى عمليات كتلك، ضرورة لمضاعفة تعقيدات التوجّه المستمر نحو التوغّلات البرية.
على المستوى الميداني، واصلت الأذرع العسكرية لفصائل المقاومة، خلال الأيام الثلاثة الماضية، هجماتها المتنوّعة، إذ دمّرت عشرات الآليات، ونفّذت عدداً من الكمائن القاتلة. وبرز، في هذا السياق، دور عمليات القنص، حيث نفّذ المقاومون 8 منها في مختلف محاور القتال، وواصلوا دكّ تحشّدات العدو بقذائف الهاون النظامية الدقيقة. أما الحدث الأكبر، الذي زاد من إحراج العدو واستفزازه، فهو تمكّن المقاومة من دكّ المدن والمستوطنات، من غلاف غزة حتى تل أبيب، بالعشرات من الصواريخ. وآخر تلك الضربات، قصفت فيها «كتائب القسام» من منطقة التوغل البري في شرق مدينة رفح، قلب تل أبيب.
وفيما يوسّع جيش العدو عملياته في رفح، أملاً في إدارة مفاوضات صفقة تبادل الأسرى تحت النار، لا يبدو أن المقاومة في صدد تقديم موقف أكثر ليناً، إذ إن الأداء الحالي، يوحي بأن إدارة المعركة قائمة على فكرة الاستنزاف الطويل، وهي مرحلة تجيد المقاومة العزف على أوتارها، على نحو يحرم العدو دائماً من ادّعاء الإنجاز التكتيكي الآني، فضلاً عن النصر المطلق، الذي أضحى شعاراً يسخر منه قادة الاحتلال أنفسهم.