رام الله | تُبدي السلطة الفلسطينية هدوءاً مريباً إزاء سلسلة التهديدات التي أطلقها وزير المالية الإسرائيلي، بتسلئيل سموتريتش، قبل أيام، في ما ينمّ إمّا عن أنها وصلت إلى مرحلة من العجز الكامل، بحيث لم تَعُد لديها القدرة على فعل أيّ شيء سوى الانتظار ومطالبة العالم بالتدخُّل، أو أنها مطمئنة إلى أهمية وظيفتها، وتعوّل تالياً على أن الولايات المتحدة والدول الغربية لن تسمح بأن تمسّ الإجراءات الإسرائيلية وجودها، أو أن تشكّل خطراً على بقائها. فإلى جانب وقف تحويل أموال المقاصة، يسعى سموتريتش إلى وقف التعامل بين البنوك الفلسطينية والإسرائيلية، وهو ما يهدّد، وفقاً لخبراء، بانهيار الاقتصاد الفلسطيني، نظراً إلى ارتباط جميع عمليات الاستيراد والتصدير، وتحديداً المواد الأساسية، بإسرائيل، فيما تتمّ عمليات المحاسبة والدفع عبر هذه العلاقة أيضاً. لكن سلطة النقد الفلسطينية (البنك المركزي) قلّصت من خطورة القرارات المشار إليها، ورأت أن الحلّ لمواجهة ذلك يكمن في التعامل بعملات أخرى، من مثل الدولار والدينار الأردني، مطمئنةً الجمهور إلى أنها تدير الأزمة باقتدار.على أن رسائل الطمأنة السالفة، لم تَجد لها صدى في الشارع الفلسطيني؛ إذ يَنظر مواطنو الضفة الذين يعيشون ضائقة كبرى، بتشاؤم إلى ما هو قادم، ويدركون المخاطر الاقتصادية الماثلة، ويعلمون أن إسرائيل تسيطر بإحكام على كل التدفقات النقدية من وإلى الأراضي الفلسطينية، عبر البنوك والحدود، وحركة البضائع والأفراد، فضلاً عن أن القرار الأخير سيحوّل البنوك إلى مكاتب صرافة، وسيشلّ الاستيراد والتصدير (والاقتصاد) بالكامل. وإذ لا تريد السلطة التصديق أن إجراءات سموتريتش هي جزء من خطّة إسرائيلية محكمة لدفعها إلى الانهيار، فهي لا تزال تراهن، كما فعلت على مدى عقود، على الجانب الأميركي لاستنقاذها. ومع ذلك، دخل القطاع المصرفي الفلسطيني في حالة طوارئ، في مسعى إلى مواجهة تلك الإجراءات التي ستدخل حيّز التنفيذ اعتباراً من تموز المقبل.
والجدير ذكره، هنا، أنّ الجهاز المصرفي الفلسطيني يرتبط بشكل وثيق مع البنوك الإسرائيلية؛ إذ يدير مصرفان إسرائيليان، هما «ديسكونت» و«هبوعليم»، علاقات البنوك الفلسطينية مع النظام المصرفي في إسرائيل والعالم. ومن أجل حماية هذين المصرفين من أيّ دعاوى قضائية مرفوعة ضدّ السلطة الفلسطينية وبنوكها في الولايات المتحدة، أصدرت حكومة الاحتلال، قبل 3 سنوات، قراراً موقعاً من وزير المالية (يُجدّد سنوياً) بتحصينهما بمواجهة أيّ تهم بـ«تحويل أموال إلى الجماعات الإرهابية». ومن دون هذه الحماية، سيتمّ تجريد السلطة الفلسطينية من الحصانة، وتصبح البنوك الإسرائيلية تالياً عرضة لدعاوى قضائية في حال تعاونت مع نظيرتها الفلسطينية، علماً أن وزارة المالية الإسرائيلية وافقت، مطلع نيسان الماضي، على تمديد القرار المذكور لمدة 3 أشهر، بدلاً من عام كامل. كذلك، تعدّ البنوك الإسرائيلية مفتاحاً رئيساً لدخول تلك الفلسطينية في النظام المصرفي العالمي، إذ تجري عبرها التحويلات النقدية لأغراض التجارة بين الجانبَين، أو بين الفلسطينيين والعالم؛ ومن دونها، يرى الخبراء أن غالبية البنوك في القطاع المصرفي الفلسطيني، ستفقد معظم مهامّها الأساسية، علماً أن حجم التجارة بين الاحتلال والسلطة يبلغ شهرياً قرابة 500 مليون دولار وفقاً لبيانات «الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني»، فيما تتجاوز قيمة التحويلات لكل الأغراض، قرابة مليار دولار أميركي شهريّاً.
تُعدّ البنوك الإسرائيلية مفتاحاً رئيساً لدخول البنوك الفلسطينية في النظام المصرفي العالمي


وإذا كانت توجيهات سموتريتش لم تقلق السلطة بالشكل المتوقّع، إلا أنها أقلقت أطرافاً أخرى، أبرزها «البنك الدولي» الذي أصدر تقريراً أكد فيه أن «وضع المالية العامة للسلطة الفلسطينية قد تدهور بشدّة في الأشهر الثلاثة الماضية، ما يزيد بشكل كبير من مخاطر انهيار المالية العامة». وأشار التقرير إلى أن «تدفقات الإيرادات نضبت إلى حدٍّ كبير بسبب الانخفاض الحادّ في تحويلات إسرائيل لإيرادات المقاصة المستحقة الدفع للسلطة الفلسطينية والانخفاض الهائل في النشاط الاقتصادي»، متوقعاً أن يبلغ عجز السلطة، 1.2 مليار دولار في الأشهر المقبلة، ما يضاعف الفجوة التمويلية التي كانت 682 مليوناً في نهاية عام 2023. أيضاً، توقّع التقرير «حدوث انكماش اقتصادي آخر يراوح بين 6.5% و9.6% في المالية العامة»، في ظلّ «ضبابية المشهد وعدم اليقين في شأن آفاق عام 2024»، مضيفاً أن «زيادة المساعدات الخارجية وتراكم المتأخّرات المستحقّة للموظفين العموميين والمورّدين، هي خيارات التمويل الوحيدة المتاحة للسلطة الفلسطينية»، علماً أن المساعدات الخارجية لا تزال في حدودها الدنيا وتكاد تكون معدومة، فيما تواصل السلطة مراكمة المتأخرات المستحقة للموظفين، إذ لم تصرف سوى 50% من رواتبهم عن شهر آذار.
ومن جانبها، أعربت وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، عن قلقها من تهديد إسرائيل بقطع الصلات بين البنوك الفلسطينية وبنوك المراسلة الإسرائيلية، ورأتها خطوة قد تغلق شرياناً حيويّاً يغذّي الاقتصاد الفلسطيني، لافتة إلى أن الولايات المتحدة وشركاءها «يحتاجون إلى بذل كل ما في وسعهم لزيادة المساعدة الإنسانية للفلسطينيين في غزة، لاحتواء العنف في الضفة الغربية، والمحافظة على استقرار الاقتصاد» هناك. ويبدو أن الأمن هو مربط الفرس بالنسبة إلى واشنطن، إذ وضعته في مقدّمة أهدافها وأولوياتها خلال زيارات وزير الخارجية، أنتوني بلينكن، إلى المنطقة، منذ السابع من أكتوبر، وهو ما أتقنت السلطة التجاوب معه، محافِظةً على «الاستقرار» في الضفة الغربية، ومانعةً حدوث انفجار في ظلّ استمرار العدوان على قطاع غزة، وذلك عبر ملاحقة المقاومين، وآخرهم أحمد الخطيب من مخيم نور شمس الذي قضى برصاص عناصر من الأجهزة الأمنية، مساء السبت. وعلى غرار التهديد المالي، تغضّ السلطة الطرف عن الاستباحة الإسرائيلية الكاملة للضفة الغربية، والتي تركّزت في الآونة الأخيرة على محافظة جنين، فيما يواصل جيش الاحتلال عدوانه في مناطق متفرّقة فيها، إذ اقتحم، فجر أمس، كفر دان، حيث فجّر عدداً من مركبات المواطنين، وسط استعداد المستوطنين لتنفيذ هجمة استيطانية واسعة في المنطقة.