بالغ البعض في التركيز على الأبعاد الشخصية والحسابات السياسية الداخلية لرئيس وزراء العدو، بنيامين نتنياهو، في قراره استهداف قادة «الحرس الثوري» في القنصلية الإيرانية في دمشق، إلى درجة أنهم أغفلوا السياق الإستراتيجي والتقديرات والرهانات التي استند إليها هذا القرار. كما حكّم هؤلاء الحسابات نفسها في تقييم نتائج الردّ الإيراني وانعكاساته على إسرائيل، متجاهلين حقيقة أن مشكلة شعوب المنطقة وقوى المقاومة هي مع كيان العدو نفسه، وليس مع مَن يتولّون المناصب فيه واعتباراتهم الشخصية والمصلحية. كذلك، سبق أن بالغ آخرون في التركيز على هذا البعد في تقييم «طوفان الأقصى» بهدف النيل من العملية، مشكّكين في صوابية هذه الأخيرة وتوقيتها، بزعم أن ما جرى أنقذ نتنياهو وإسرائيل من الأزمة الداخلية، وأعاد اللحمة إلى العلاقات الإسرائيلية - الأميركية.مع ذلك، قد يصحّ استحضار تلك العوامل في النظر إلى كلا الحدثَين، مع تحديد وزنها وموقعها فيهما، بما لا يضير تقدير آثارهما المباشرة والبعيدة المدى على الأمن القومي الإسرائيلي وعلى مجمل المعادلات الإقليمية. وعلى أيّ حال، إذا كان نتنياهو يريد الهروب من مستنقع غزة عبر فتح جبهات أخرى، فإن الفهم الإسرائيلي الخطأ ورّط الكيان في خيار عدواني دفع إيران إلى ردٍّ، وضع الأول أمام خيارَين إستراتيجيَّين: إمّا الامتناع عن ردّ عسكري متناسب في الأراضي الإيرانية، ما سيعني نجاح الجمهورية الإسلامية في التأسيس لمعادلة ردع جديدة تحبط إستراتيجية العدو وتقيّد خياراته؛ وإمّا الإقدام على ردّ تناسبي في إيران يؤدّي إلى ردّ مضاد يُعمّق المأزق الإسرائيلي، ويضع المشهد الإقليمي أمام سيناريوات متعدّدة، من ضمنها التدحرج نحو معركة إقليمية يشارك فيها أيضاً محور المقاومة. وفي المقابل، فإن من بين الخيارات البديلة، عمليات أمنية أو عسكرية ضدّ أهداف لـ«المحور» في سوريا، قد تسمح لإسرائيل في الساحة الداخلية، وبعض الخارج، الادعاء أنها ردّت. إلا أن مثل هذه الخطوة غير كافية لإحداث تغيير في المعادلة التي فرضتها طهران، بخاصة أنّ أيّ ردّ، حتى يكون ناجعاً، ينبغي أن يستهدف التأثير على الإرادة السياسية للقيادة الإيرانية.
أما منشأ التورّط الذي تدحرجت إليه إسرائيل في ظلّ قيادة نتنياهو، فهو أن المؤسستَين الاستخبارية والسياسية فشلتا في تقدير ردّ الفعل الإيراني على استهداف القنصلية، ما عمَّق من مأزقهما أمام الجمهور الإسرائيلي الذي أصبح أكثر تشكّكاً إزاء كلّ ما يصدر عنهما من تقديرات ومحاولات استشراف. وفي هذا المجال، لفت المعلّق العسكري في صحيفة «هآرتس»، عاموس هرئيل، إلى أن إسرائيل لم تتوقّع التغيير الإستراتيجي في إيران، فيما اعتبر المعلّق العسكري في «القناة 13»، ألون بن ديفيد، أن إيران «حطّمت جميع الفرضيات التي اعتقدت في ضوئها إسرائيل دائماً بأن طهران لا يمكن أن تبادر من أراضيها». وهكذا، بدلاً من أن تُعزّز إسرائيل صورة ردعها عبر استهداف قيادة «حرس الثورة» في سوريا ولبنان، تلقّت ضربة لقوّة هذا الردع، وهو ما انعكس على ألسنة الخبراء والمحلّلين والقيادات السياسية والأمنية، وتجلّى في الارتباك إزاء خيارات الردّ المضادّ، والتي لا تخفى مخاطرها.
في المقابل، فقد كان من المؤذي جداً للمقاومة في فلسطين ولبنان، أن تنجح إسرائيل في فرض معادلات ردّ وردع على إيران تقيّد خياراتها أو ترفع منسوب الأثمان التي تدفعها بسبب موقفها من فلسطين ودعمها قوى المقاومة. كما أن دخول طهران المباشر على خطّ المعركة يشكّل تعزيزاً لموقف تلك القوى؛ إذ كلّما ارتفع منسوب التوتّر في المنطقة واتّسع نطاقه، أسهم ذلك في تعزيز الدوافع الأميركية والغربية من أجل إنهاء الوضع القائم في قطاع غزة، وأيضاً في تعميق عملية استنزاف إسرائيل، ومنح أعدائها عناصر ضغط إضافية تصبّ في مصلحتهم في أيّ مفاوضات، من دون إغفال حقيقة الانعكاس الإيجابي المعنوي على حركات المقاومة وشعوبها، وتحديداً في الداخل الفلسطيني. أيضاً، فإن توزيع الجهود الإسرائيلية على عدّة جبهات يصبّ في مصلحة المقاومين في فلسطين وغزة، ويمنحهم هامشاً عملياتيّاً أوسع، خاصة عندما تكون في المعادلة دولة بحجم إيران، علماً أنه لا خلاف داخل المؤسستَين السياسية والأمنية حول التهديد الذي تمثّله الجمهورية الإسلامية على الأمن القومي الإسرائيلي.
وفي المحصلة، مهما تعاظمت محاولات التشويش، فإن واقعاً جديداً بدأ يتشكّل في فلسطين والمنطقة، ومن ضمنها إيران. ففي مقابل غزة، فشل جيش العدو في تحقيق أهدافه، ومع لبنان أخفق أيضاً في منع تحوّل الشمال إلى ساحة استنزاف أمني واقتصادي واجتماعي، الأمر الذي دفع قسماً من قاطني تلك المستوطنات إلى الإعلان أنهم لا يعتزمون العودة إليها، بحسب استطلاعات الرأي. وفي الموازاة، تبلور مفهوم بات يتردّد على ألسنة سياسيين وإعلاميين، مفاده بأن الحكومة خسرت الشمال. أمّا إيران، فقد سبق أن كانت حاضرة بقوّة في المعادلة من بوابة دعمها لقوى المقاومة في غزة ولبنان، فيما ارتقت مواجهتها للعدو الآن إلى مستويات غير مسبوقة، وهو متغيّر رئيسي ستكون له تداعياته الكبيرة على مجمل المعادلة الإقليمية.