أرسى جوزيف غوبلز، وزير الدعاية الألماني بين عامَي 1933 و1945، والمستشار ليوم واحد بعد انتحار أدولف هتلر، نوعاً من السياسة الإعلامية التي تقوم على «صناعة الوهم»، لجسر الهوة بين الواقع وما يُراد تسويقه. والشاهد هو أن عوامل عدة، جنباً إلى جنب مع الكاريزما، أدت إلى نجومية هذا الأخير، إذ لطالما لقيت «صرخاته» أرضية تتمدّد فيها، بدءاً من هزيمة ألمانيا المدوّية في الحرب العالمية الأولى، وما خلّفته من «جراح مزمنة» في الذات الجمعية للألمان، وصولاً إلى تعثّر الاقتصاد الألماني على وقع هبوط الصناعة والارتفاع الحاد في معدلات البطالة، واللذين أرخيا بحمولات شديدة الوطأة على «الماكينة» الألمانية، إلى درجة صار «اليأس» معها هو سيد المشهد. وفي غمرة الصعود النازي المتمثّل في هتلر عام 1933، سيقول غوبلز أمام تجمع نازي في ميونيخ إنه «لا بد من رجل قوي يقود ألمانيا». وعندما وصل ذلك «القوي» ثم ذهب إلى ما ذهب إليه عام 1939، كان غوبلز يمارس «صناعة الوهم» من منبره الإعلامي الذي أسّس لمدرسة ملأ خرّيجوها المعمورة من بعده.شكّل المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي، دانيال هاغاري، منذ ظهوره على المنبر مساء 7 أكتوبر الماضي، نموذجاً لا لبس في «قدراته» التي راحت تتعالى بدرجة كبيرة تبعاً لتصاعد وتيرة النار. والفعل الذي يعطي لهذا الأخير «شهادة تفوّق» صادرة عن مدرسة غوبلز الشهيرة، كان يشير إلى عامل موضوعي يتمثّل في حاجة داخلية تفرض صعود النموذج الصاروخي. وفي إطلالاته الإعلامية التي صارت تقليداً مسائياً تنقله «الجزيرة» بطريقة بعيدة عن المهنية، مستهدفة الشرائح التي تغيب عندها القدرة على فرز «السم عن العسل»، بدأ هاغاري يقدّم رواية الجيش الإسرائيلي عن «اغتصاب النساء الإسرائيليات على يد مقاتلي حماس»، وعن «شيّ الأطفال الإسرائيليين بالأفران». وفي مرحلة لاحقة، صارت السرديات تُعنى بتقديم أدلة على استخدام «حماس» للمشافي كـ «غرف عمليات» في إدارة المعارك. وفي ذلك تكفي الإشارة إلى سرديتين، الأولى كانت تتحدث عن «العثور على بنادق كلاشينكوف في غرف تصوير الرنين المغناطيسي في مستشفى الرنتيسي»، والثانية تقول بـ«العثور على 20 كيلوغراماً من المعادن في غرفة تصوير الأشعة في مستشفى الشفاء». وكلا السرديتين تنفيهما الحقائق العلمية التي تقول بأن وجود قطعة معدنية، ولو بحجم مفتاح، في أي من تينك الغرفتين سيعني خروجها عن الخدمة تماماً، أو سيعني انتفاء صلاحيتها في إعطاء النتائج المرجوة منهما.
المستوى السياسي يسعى إلى إبقاء الإسرائيليين في حال «تنويم» لشعوره بأن الأرض تميد تحت سيقان مشروعه


فجر 14 نيسان الجاري، كان هاغاري على موعد مع اختبار بدا فيه كمن يحاول التربّع على عرش تلامذة المدرسة الغوبلزية. ففي مؤتمره الذي عقده في أعقاب الرد الإيراني على استهداف القنصلية في دمشق، قال إنّ «1 % فقط من الصواريخ والمقذوفات الإيرانية وصلت إلى أهدافها، و99 % منها قد تم إسقاطها». يمثّل تصريح مثل هذا، فضيحة على مستويات عدة، إذ إن جلّ المصادر التي رصدت الحدث، وبعضها غربي وازن، يقول إن إيران أطلقت نحو 331 صاروخاً باليستياً وطائرة مسيرة، وذلك يعني، وفقاً لغوبلز الإسرائيلي، أن 3 صواريخ أو 3 طائرات فقط وصلت إلى أهدافها. وبنتيجة المتابعة لما نشرته مواقع مستوطنين إسرائيليين، وناشطين فلسطينين، يمكن تشكيل صورة قريبة عما جرى في قاعدتي «رامون» و«نيفاتيم» ومدينة إيلات، والتي أظهرت الشرائط تعرضها لانفجارات متلاحقة، ناهيك عن أن عدداً من تلك الشرائط كان قد بيّن صواريخ وطائرات وهي تعبر سماء الخليل والقدس، ما يعني أنها أفلتت من «المصيدة» الفرنسية والأميركية التي نُصبت لها في السماوات الأردنية. وبالتدقيق، وبعد حذف المكرّر الذي تبرّره حالات التصوير من مواقع مختلفة، يمكن الجزم بوقوع ما بين 52 و60 انفجاراً على الأقل على الأرض وليس في السماء، مع الأخذ في الحسبان أن ثمة انفجارات أخرى كانت قد حصلت بالتأكيد ولم يتمكن أحد من رصدها.
الأكيد هو أن المستوى السياسي في إسرائيل برمته يعرف أن هاغاري يكذب، ويعرف أيضاً أنه ستكون للفعل تداعياته التي ستتدحرج لاحقاً، كما كرة الثلج، عندما يحين وقت «فتح السجلات» لإجراء جردة حساب لا مفرّ منها، لكن ذلك المستوى يدرك أن ما يفعله هاغاري هو تغليب «الضرورة» على «الحقيقة»، لأن الكيان بحاجة الآن إليه وإلى أكاذيبه لكي يظل الإيمان بـ«النصر» قائماً، لدى جمهور يستيقظ على حقائق ووقائع مختلفة عن تلك التي رسخت في الذهن والوعي. ذلك أيضاً يفسّر أن صوت هاغاري كان هو الغالب في الداخل الإسرائيلي، حيث ضاعت أصوات من نوع صوت الجنرال الاحتياطي رام أميتاخ، المستشار المالي السابق لرئيس الأركان الإسرائيلي، الذي قال إن تكلفة 4 ساعات مرّت على إسرائيل فجر 14 نيسان، كانت بحدود 1.3 مليار دولار. ورغم أن الأخير تعمّد الخوض في التكلفة المادية، لربما بحكم اختصاصه، من دون الذهاب إلى مقاربات أشد تأثيراً من حيث النتيجة، إلا أن الفعل أتى في سياق إيقاظ الجمهور من حال «التنويم» الذي يسعى إليه مستوى سياسي بات يشعر بأن الأرض باتت تميد تحت سيقان مشروعه.